ينبغي أن تقوم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بمعاودة النظر في مزاعم إجازة حكومة المملكة المتحدة استخدام التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة في أيرلندا الشمالية خلال سبعينيات القرن الماضي؛ كما ينبغي أن يتم إجراء تحقيق جديد في القضية.
ودعت منظمة العفو الدولية إلى ذلك في معرض حثها الحكومة الأيرلندية من أجل طلب إعادة فتح ملف الحكم الصادر في الدعوى التاريخية التي رفعتها أيرلندا عام 1978 ضد المملكة المتحدة بشأن تعذيب وإساءة معاملة 14 رجلا عُرفوا حينها باسم “الرجال الملثمون” أثناء اعتقالهم في أيرلندا الشمالية عام 1971.
وساندت مجموعة “الرجال الملثمين” الدعوة التي أطلقتها منظمة العفو الدولية أثناء مؤتمر صحفي في دبلن صباح اليوم.
ورفعت أيرلندا عام 1971 أول دعوى مشتركة ما بين الدول أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وادعت فيها أن المملكة المتحدة قد خالفت أحكام الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان من خلال تعرض أولئك الرجال للتعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة على أيدي جنود الجيش البريطاني وعناصر الشرطة الملكية في أيرلندا الشمالية. ويُذكر أن استخدام ما اعتبرته أيرلندا – ومنظمة العفو الدولية أيضا – تعذيبا قد أصبح أحد العناصر المركزية في قضية ما أصبح يُعرف باسم “قضية الرجال الملثمين”.
ويأتي تجديد الدعوة التي أطلقتها منظمة العفو الدولية عقب اكتشاف مادة أرشيفية ضمن برنامج “ملفات التعذيب” الذي بثته محطة آر تي إي التلفزيونية في يونيو/ حزيران الماضي، وكشف النقاب عن حجب حكومة المملكة المتحدة أدلة هامة عن المحكمة الأوروبية أثناء الجلسة. وتعتقد منظمة العفو الدولية أنه من الممكن أن تقود الأدلة المحجوبة إلى توصل المحكمة الأوروبية لاستنتاجات مغايرة في عام 1978 لو تم كشف النقاب عن تلك الأدلة في حينه، حيث قررت المحكمة آنذاك أن “الأساليب الخمسة” المستخدمة في استجواب الرجال قد شكلت معاملة لاإنسانية ومهينة بما يخالف أحكام المادة 3 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان دون أن ترقى إلى مصاف التعذيب.
وتألفت الأساليب الخمسة آنفة الذكر من تغطية الرأس والأوضاع الضاغطة أو المجهدة والضجيج الأبيض (الترددات الصوتية) والحرمان من النوم والحرمان من الطعام والماء يرافقها اعتداءات بدنية وتهديدات بالقتل وُجهت إلى أولئك الرجال.
ويُذكر أن البرنامج الذي بثته قناة “آر تي إي” في 4 يونيو/ حزيران عرض ملفات عُثر عليها في الأرشيف الوطني للمملكة المتحدة، وتظهر أن الحكومة البريطانية عرفت أن حججها الأساسية الزاعمة بأن الآثار المترتبة على أساليب الاستجواب المستخدمة بحق “الملثمين” لم تكن قاسية أو ذات آثار دائمة هي حجج واهية وغير حقيقية. بل إنها تُظهر في واقع الأمر أن الحكومة كانت على علم حينها بالآثار النفسية والجسدية القاسية وطويلة الأجل المترتبة على “أساليب الاستجواب الخمسة” تلك وأنها اعتبرتها اساليب تعذيب في واقع الحال.
وكشف البرنامج التلفزيوني وثائق لم يسبق عرضها من قبل تظهر أن سلطات المملكة المتحدة – بما في ذلك وزراء حقائب سيادية – قد أجازوا استخدام الأساليب الخمسة في أيرلندا الشمالية، وهو ما حرص الوزراء على إنكاره أمام المحكمة الأوروبية.
ونجحت المملكة المتحدة في إقناع المحكمة الأوروبية بأن تعفيها من إلصاق “وصمة عار” ارتكاب التعذيب بها إذا توصلت المحكمة إلى أن ما حدث هو تعذيب فعلا وذلك من خلال حرصها على عدم الكشف عن أدلة ذات صلة باتخاذها موقفا يتناقض مباشرة مع المشورة التي حصلت عليها داخليا.
وقد كان لقضية “أيرلندا ضد المملكة المتحدة” تبعات كبيرة متعددة الأبعاد. حيث تم اقتباس حججها ومبرراتها التي سيقت آنفا ضمن مذكرات التعذيب الشهيرة التي صدرت عن إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في محاولة لتبرير الإساءة للسجناء أثناء ما أسمته “الحرب على الإرهاب” واصفة إياها بأنها لا ترقى إلى مصاف التعذيب.
وفي الشهر الماضي، بعثت منظمة العفو الدولية برسالة إلى رئيس الوزراء الإيرلندي، إيندا كيني، للضغط من أجل إعادة فتح ملف القضية. وبوسع الحكومة الأيرلندية أن تقدم طلبا لدى المحكمة الأوروبية قبل 3 ديسمبر/ كانون الأول القادم، أي قبل مرور ستة أشهر كحد أقصى على ظهور معلومات جديدة – وذلك بهدف تسجيل طلب لدى المحكمة من أجل مراجعة نص قرارها السابق.
كما خاطبت منظمة العفو الدولية رئيس وزراء المملكة المتحدة، ديفيد كاميرون، تحث حكومته فيها على إجراء تحقيق مستقل في تلك المزاعم ومقاضاة المسؤولين عن ذلك. ولم يسبق أبدا وأن أُجري تحقيق بناء على تحرير شكوى بداعي مخالفة أحكام المادة 3 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بما يفسح المجال أمام مقاضاة وكلاء الدولة الضالعين في إيجاز أو تنفيذ تلك الانتهاكات أو المخالفات. وبالإضافة إلى ذلك، تهيب منظمة العفو الدولية بحكومة المملكة المتحدة أن تستحدث آلية جديدة في أيرلندا الشمالية من أجل التحقيق في جميع انتهاكات حقوق الإنسان – ليشمل تلك التي ارتكبها عناصر قوات الأمن أو الجماعات المسلحة شبه العسكرية – أثناء النزاع، بما في ذلك قيامهم باللجوء إلى التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة بشكل منهجي.
وقال توماس هامربيرغ الذي قاد بعثة منظمة العفو الدولية إلى أيرلندا الشمالية عام 1971 من أجل التحقيق في احتجاز أولئك الرجال:
“إن الزمن ليس كفيلا بالتئام جميع الجراح إذا لم تأخذ العدالة مجراها. وسبق لي وأن ترأست قبل أكثر من أربعين عاما وفد منظمة العفو الدولية إلى بلفاست للتحقيق في مزاعم تلقيناها بشأن أساليب استجواب وحشية ترافقها تدابير من “الحرمان من الإدراك الحسي”. وكان من الواضح لنا أنه قد تم ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ولا شك في أنها كانت ترقى إلى مصاف التعذيب. ولقد اعتراني شعور عميق بخيبة الأمل عندما توصلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى استنتاج مفاده أن إساءة معاملة المحتجزين في أيرلندا الشمالية وفق الصلاحيات الممنوحة في حالات الطوارئ في سبعينات القرن الماضي لم ترق إلى مصاف التعذيب. وتكرر استخدام أساليب مشابهة منذ ذلك الحين بحق المشتبه بهم في سياقات أخرى ليس أقلها أثناء “الحرب على الإرهاب” بقيادة الولايات المتحدة. ويجب التعامل بجدية كاملة مع الادعاء القائل بأن حكومة المملكة المتحدة قد ضللت المحكمة في ستراسبورغ بشأن قضية “الرجال الملثمين”. وإذا ثبت ذلك فعلا، فسوف يُعتبر ذلك ظلما فادحا إضافيا وقع بحق الضحايا، وسمح بإفلات الجناة من العقاب بعد أن استخدموا مثل تلك الأساليب في سياقات أخرى طوال العقود الأربعة الماضية. وبوصفها دولة وقعت على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، فمن مصلحة حكومة المملكة المتحدة أن تحرص على توضيح الحقائق المتعلقة بهذه القضية الهامة واتخاذ الإجراء التصحيحي المناسب”.
وأما المدير التنفيذي لفرع منظمة العفو الدولية في أيرلندا، كولم أوغورمان، فقال ما يلي:
“لهؤلاء الرجال وعائلاتهم الحق في معرفة الحقيقة وإنجاز العدالة. وندرك طبيعة التحديات الديبلوماسية التي تعترض سبيل قيام أيرلندا بالمطالبة بإعادة فتح ملف هذه القضية. ولكن يحدونا الأمل مع ذلك في أن تظهر الحكومة الأيرلندية اليوم نفس العزيمة والإصرار التي أظهرتها سلفتها في عام 1971 عندما خطت خطوة جرئية وغير مسبوقة من أجل تحقيق احترام سيادة القانون وكشف النقاب عن انتهاكات حقوق الإنسان. ودفعت الدولة الأيرلندية بأن أفعال المملكة المتحدة ترقى إلى مصاف التعذيب حينها – وها نحن نهيب بها أن تقوم بإثبات ألمر نفسه الآن. ويعني ذلك وجوب تقديم طلب في غضون الأسبوعين القادمين لدى المحكمة الأوروبية كي تنظر في هذه المعلومات الجديدة. فالوقت ينفد بسرعة”.
وقال مدير برنامج أيرلندا الشمالية بمنظمة العفو الدولية، باتريك كوريغان:
“علاوة على ضرورة إعادة فتح ملف قضية أيرلندا ضد المملكة المتحدة، ثمة مسؤولية طال انتظارها تحققها تقع على عاتق المملكة المتحدة كي تجري تحقيقا مستقلا في تعذيب أولئك الرجال ومحاسبة المسؤولين عن ذلك. ولم يحدث شيء من هذا القبيل أبدا. وهو أمر غير مقبول بالنسبة للرجال ضحية هذه الانتهاكات وأفراد عائلاتهم الباقون على قيد الحياة والمجتمع عموما.
“وتقع المسؤولية كاملة على عاتق حكومة المملكة المتحدة. ونناشد أيرلندا كي توظف مساعيها الحميدة من أجل الحرص على قيام المملكة المتحدة بإجراء تحقيق يمتثل لمقتضيات حقوق الإنسان.
وتبرز هذه القضية الحاجة إلى توافر وسائل شاملة للتعامل مع الماضي في أيرلندا الشمالية وضرورة قيام جميع أطراف النزاع بالاعتراف بما ارتكبته من انتهاكات حقوق الإنسان وأشكال الإساءة المرتبطة بها”.