تونس: بادروا إلى وضع حد للإنكار، وإلى التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان باسم الأمن

يدعو قرار الرئيس أوباما بإغلاق مرفق الاعتقال الأمريكي في خليج غوانتنامو بكوبا بحلول يناير/كانون الثاني المقبل منظمة العفو الدولية إلى التخوف من إمكانية الإعادة القسرية لعدة تونسيين معتقلين هناك إلى تونس، حيث يمكن أن يتعرضوا لمزيد من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، ومن ضمنها الاعتقال بدون محاكمة والتعذيب. وليس بمستغرب أن تقابل الأنباء التي أفادت أن الإدارة الأمريكية يمكن أن تنقل المواطنين التونسيين عوضاً عن ذلك إلى دول أوروبية مثل إيطاليا وأسبانيا وهنغاريا، بإنكار شديد من جانب السلطات التونسية لوقوع انتهاكات لحقوق الإنسان في تونس بعدما أبدت استعدادها لاستقبال جميع المواطنين التونسيين المعتقلين.
وقبل سنة، وصف تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في يونيو/حزيران 2008 تحت عنوان، استباحة حقوق الإنسان باسم الأمن في تونس، بالتفصيل نمطاً للانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان التي ترتكبها السلطات التونسية باسم الأمن ومحاربة الإرهاب –  عمليات التوقيف والاعتقال التعسفية، حيث يحتجز المشتبه بهم بمعزل عن العالم الخارجي ويتعرضون للتعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة والاختفاء القسري، مع إفلات موظفي دائرة أمن الدولة المرهوبة الجانب التابعة لوزارة الداخلية من العقاب. وقد أُدين المئات غيرهم بتهم لها علاقة بالإرهاب في محاكمات جائرة وحُكم عليهم بالسجن مدداً طويلة. وبحسب تقديرات منظمة العفو الدولية، حُكم على 1,200 شخص على الأقل بالسجن منذ يونيو/حزيران 2006 بموجب قانون مكافحة الإرهاب لعام 2003. وتشير تقديرات النشطاء والمحامين التونسيين إلى أن عدد المحكوم عليهم وصل إلى نحو 2000 شخص منذ اعتماد القانون. وفي حالات عديدة، أُدين المتهمون بناء على “اعترافات” يزعمون أنهم أدلوا بها تحت وطأة التعذيب في التوقيف قيد النظر (الاعتقال السابق للمحاكمة)؛ وتقبل المحاكم بصورة مألوفة هذه الاعترافات الملطخة بالتعذيب كدليل بدون أن تتخذ أي خطوات للتحقيق في ما إذا كانت قد صدرت بحرية أو انتُزعت تحت وطأة التعذيب أو غيره من ضروب الإكراه. وفي حالات عديدة رصدتها منظمة العفو الدولية، حوكم المتهمون أكثر من مرة بالتهم ذاتها في محاكمات منفصلة، وصدر عليهم أكثر من حكم واحد نتيجة لذلك.

وبعد مضي عام على صدور تقرير منظمة العفو الدولية، لم يحدث تغير ملموس في تونس، ويظل وضع حقوق الإنسان مزرياً. وقد رفضت الحكومة النتائج الواردة في التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية لعام 2008، قائلة إنه يفتقر إلى المصداقية، وأنكرت بأن موظفي دائرة أمن الدولة وغيرهم من المسؤولين المكلفين بإنفاذ القانون يُسمح لهم بممارسة التعذيب ضد المعتقلين أو إساءة معاملتهم دون أن ينالوا عقابهم. بيد أن الحكومة لم تكشف النقاب عن أي معلومات تشير إلى أنه أُجريت تحقيقات مستقلة في مزاعم التعذيب أو جرت مقاضاة موظفي دائرة أمن الدولة أو غيرهم من الموظفين الرسميين الذين زُعم بأنهم ارتكبوا التعذيب أو غيره من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. كذلك لم تبادر إلى وضع ضمانات كافية ضد التعذيب أو غيره من ضروب سوء المعاملة الممارسة ضد المشتبه بهم الذين يعتقلون بمعزل عن العالم الخارجي لاستجوابهم في التوقيف قيد النظر.
وبرغم هذا السجل المزري على صعيد حقوق الإنسان، واصلت حكومات الدول الأخرى، ومن ضمنها دول أوروبية الإعادة القسرية للمواطنين التونسيين الذين تشتبه في تورطهم في جرائم لها علاقة بالإرهاب إلى تونس بدون إيلاء اعتبار كاف لتعرضهم لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في حجز السلطات التونسية. وتشكل عمليات الإعادة غير التطوعية هذه بوجود خطر شديد في التعرض للتعذيب وغيره من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان،  إخلالاً بمبدأ عدم الإعادة القسرية.
وقد أعادت السلطات الإيطالية قسراً ثلاثة مواطنين تونسيين على الأقل إلى تونس منذ يونيو/حزيران 2008، برغم القرارات التي اتخذتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في تسع أحكام صدرت في الأشهر الأخيرة، أشار كل منها إلى أن الإعادة القسرية إلى تونس تشكل انتهاكاً للمادة 3 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي تحظر التعذيب والمعاملة أو العقوبة اللاإنسانية أو المهينة. وأكدت القرارات الصادرة في مارس/آذار ومايو/أيار 2009 الحكم التاريخي الصادر عن المحكمة في فبراير/شباط 2008 في قضية سعدي ضد إيطاليا، حيث قضت أن “إبعاد المستدعي إلى تونس يمكن أن يشكل انتهاكاً للمادة 3 من الاتفاقية.”
 وفي أحكامها الصادرة في مارس/آذار ومايو/أيار، تبين للمحكمة أن الأوضاع التي كانت سائدة في تونس عند البت في قضية سعدي ضد إيطاليا لم تتغير. وقضت المحكمة أن “الممارسات المذكورة – التي يقال إنها تُرتكب غالباً ضد الأشخاص في حجز الشرطة بهدف انتزاع اعترافات – تتضمن التعليق من السقف، والتهديدات بالاغتصاب، والصعق بالصدمات الكهربائية، وتغطيس الرأس في الماء، وعمليات الضرب والإحراق بالسجائر، حيث تصل جميع هذه الممارسات بلا شك إلى الحد الشديد الذي تقتضيه المادة 3”.
ولم تقبل المحكمة بأن الضمانات الدبلوماسية التونسية يمكن أن توفر حماية فعالة للمهددين بالإعادة القسرية إلى تونس –  وهو أمر زعمته الحكومة الإيطالية. وما فتئت منظمة العفو الدولية تعارض مبدأ ما يسمى بالضمانات الدبلوماسية من أساسه كونه غير جدير بالثقة بطبيعته وعديم الفعالية عملياً. وفي الواقع ما حدث لسامي بن خميس السيد يشكل دليلاً قاطعاً على أن هذه ‘الضمانات’ غير جديرة بالثقة،  وما كان ينبغي أن يعاد إلى تونس. وكان قد قُبض على سامي خميس السيد لدى عودته إلى تونس،  وقُدم للمحاكمة أمام محكمة عسكرية. وبرغم أنه لم يتعرض للتعذيب فور عودته، بحسب محاميه، فبعد مضي ستة أشهر على عودته وسجنه، ومع تضاؤل الاهتمام الدولي بمصيره، اقتيد من السجن الذي كان يقضي عقوبته فيه، إلى وزارة الداخلية لاستجوابه وتعرض للتعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة لمدة يومين.
وإيطاليا ليست الدولة الوحيدة التي نفذت عمليات إعادة غير قانونية كهذه، وتشمل الدول الأخرى البوسنة والهرسك ومصر وسورية.
وتقر منظمة العفو الدولية بمسؤولية الحكومة التونسية في محاربة الإرهاب، لكن عند قيامها بذلك عليها أن تتقيد بالواجبات المترتبة عليها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. فانتهاكات لحقوق الإنسان مثل الاعتقال بمعزل عن العالم الخارجي والتعذيب والحرمان من الحق في محاكمة عادلة ليست مقبولة – حتى عند ارتكابها باسم محاربة الإرهاب، وينبغي على السلطات التونسية أن تقلع عن هذه الممارسة فوراً، وأن تقدم الموظفين الرسميين التونسيين المسؤولين عن ارتكاب  هذه الانتهاكات إلى العدالة.
وفيما تستمر هذه الانتهاكات، ينبغي على الحكومات الأخرى، بمن فيها الولايات المتحدة الأمريكية وحكومات الدول الأوروبية الامتناع عن إعادة الأشخاص التونسيين المشتبه في تورطهم في الإرهاب أو المطلوبين من جانب السلطات التونسية لأسباب أمنية أخرى، لأنهم معرضون لخطر التعذيب أو غيره من الانتهاكات الخطيرة في تونس.
وينبغي على السلطات التونسية أن تتصدى لظاهرة التعذيب التي تسود البلاد وأن تكف عن إنكارها. وعليها أن تكفل بأن تكون تونس بالفعل دولة يسود فيها حكم القانون، كما صرح الرئيس بن علي، “إن السياسة والتوجهات المعتمدة في تونس… تحمي حقوق الإنسان وتعززها وتدافع عنها”.