مدونة في “عيد الحب” حول وفاة رجل سوري أمام عيني زوجته وأطفاله

غسان الشهابي وابنتاه التوأمان، جود وجنى
© Private
غسان الشهابي وابنتاه التوأمان، جود وجنى © Private

بقلم سيلينا ناصر، الباحثة في الشؤون السورية بمنظمة العفو الدولية

عندما وقعت سهام أبو ستة في حب غسان الشهابي، اجتذبها إليه تصميمه على الحفاظ على فلسطين القديمة حية في ذاكرته، وحبه للقراءة والكتابة والتزامه بعمله.

كانا، كلاهما، لاجئين فلسطينيين في مخيم اليرموك في سورية.

وعندما تقدم لخطبتها، وعدها غسان بأن يرعى بحنان طفلي سهام من زواجها السابق، كارمن، البالغة من العمر آنذاك 12 سنة، ويمن، البالغ آنذاك 15 سنة، وبأن يعاملهما كطفليه.

وعقب ست سنوات من زواجهما، تقول سهام إن غسان لم يخذلها أبداً.

تتذكر سهام يوم وفاة والدتها، حيث انفعلت كارمن انفعالاً شديداً لوفاة جدتها، وركضت إلى غسان، الذي ضمها بين ذراعيه، رغم أن أباها كان جالساً في المكان.

تقول سهام: “كان غسان هو الملاذ التي تشعر فيه بالأمان”.

ثم أصبح لغسان وسهام أطفالهما: ابنتان توأمان، جود وجنى.

وعندما بدأت الانتفاضة في سورية وتدهورت الأوضاع لتتحول إلى نزاع مسلح، تحول اهتمام غسان نحو تقديم الدعم والعون للسوريين والفلسطينيين الذين شردهم القتال من منطقتي الحجر الأسود وحي التضامن.

وفي نهاية المطاف، قرر مع عائلته البحث عن ملجأ لهم في لبنان، مثل آلاف الأشخاص الذين فروا من سورية بحثاً عن السلامة.

عندما التقيت غسان وسهام في لبنان، في 3 يناير/كانون الثاني 2013، حدثني عن ذهابه مع آخرين إلى حي التضامن بالسيارة في 15 يوليو/تموز 2012 لإخلاء عائلات من هناك حاصرتها قذائف الهاون المتساقطة على المنطقة أثناء محاولة الحكومة استرداد الحي من سيطرة المعارضة. “كان الأطفال فزعين… وكانوا يصرخون بصورة هستيرية”.

لم يكن يعرف في 12 يناير/كانون الثاني 2013 بأن ابنتيه الصغيرتين، جود وجنى، سوف تشهدان بأم عينيهما رعب مقتل والديهما.

عاد غسان وسهام وأطفالهما إلى سورية في اليوم الذي التقيتهما لترتيب أمور سكن كارمن في قدسيا، غربي دمشق، حتى لا تفوتها دراستها الجامعية.

ويوم الجمعة، 11 يناير/كانون الثاني 2013، أحضر غسان وسهام 25 ربطة خبز لإطعام الناس داخل مخيم اليرموك. حاولا دخول المخيم المحاصر بعد الظهر، ولكن كانت هناك اشتباكات كثيفة، وحسب ما قالت سهام، كانت المجازفة في منتهى الخطورة.

في الصباح التالي، أخبرت سهام غسان أنها والأطفال يرغبون في البقاء معه في اليرموك. قالت: “نبقى معاً ونموت معاً”. أحاطها بذراعيه وقال لها: “لن أترككم أبداً”.

وصلا مدخل مخيم اليرموك الساعة 10.15 صباحاً. ولم تكن نقطة التفتيش التابعة لمخابرات سلاح الجو تسمح للسيارات بالدخول. تتذكر سهام: “كنا نستطيع سماع أزير رصاص القناصين. فتشوا سيارتنا وقالوا إنهم سيصادرون الخبز. قال أحد ضباط مخابرات سلاح الجو: “لا تستطيعون أخذ الخبز إلى الداخل”.

قلت: “هذا الخبز لعائلاتنا”. أجاب الضابط: “كلا، أنتم تأخذون الخبز للمسلحين”. قلت: “بما أنكم لن تسمحوا لنا بأي شكل الدخول بالسيارة، سنبقيها هنا ونبقي الخبر في الصندوق. لستم مضطرين لأن تصادروه”.

اجتازت سهام الشارع مع جود وجنى، بينما قام غسان بإيقاف السيارة خارج مخيم اليرموك مباشرة. ولأن الطفلتين كانتا تبكيان بسبب أصوات الرصاص، قال لهما جندي واقف على نقطة التفتيش: “لا تخافا، هذا قناصنا. لن يطلق النار في هذا الاتجاه”.

وفي هذه الأثناء، قام غسان بإيقاف السيارة، وبينما كان يجتاز الشارع على قدميه للانضمام إلى أسرته، قال له قائد عسكري في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة”، المدعومة من الحكومة: “غسان الشهابي، تستطيع أخذ سيارتك”.

فعاد غسان إلى السيارة وقادها إلى حيث كانت زوجته وطفلتاه وطلب منهم أن يدخلوا بسرعة. تقول سهام: “دخلت السيارة مع جود وجنى في المقعد الخلفي لحمايتهما في حال حدوث شيء”.

قالت سهام إن غسان سار بالسيارة حوالي 75 متراً في شارع اليرموك، أحد الطرق الرئيسية في المخيم، عندما ثقبت رصاصة المقعد الخلفي ومرت بين جود وجنى ومزقت مقعد السائق لتستقر في رئتي غسان.

“صرخ: آه، وأفلتت يداه عجلة القيادة… انحرفت السيارة لترتطم بالرصيف واصطدمت بالحائط… ولم أسمع سوى أزيز الرصاص. وكان غسان صامتاً”.

قفزت سهام وجود من السيارة. “كان أنف جود ينزف من أثر اصطدام السيارة بالحائط، وسترتها مخضبة بالدماء. اعتقدت أنها قد أصيبت برصاصة، ولذا نزعت سترتها على الفور… لم يكن هناك شيء. كان الدم دم أبيها.

“لم تقل جنى ولو كلمة واحدة. اختبأت فقط تحت الكرسي وهي في حالة صدمة”.

صرخت جود: “قتلتم أبي، قتلتم أبي”.

“كان المكان الذي توقفت فيه السيارة قريباً من أول موقع “للجيش السوري الحر” في شارع اليرموك. جاء بعضهم للمساعدة، وكان أحدهم عاملاً صحياً حاول إعادة التنفس لغسان… نظرت إلى غسان؛ وبدا وكأن عينيه تقولان وداعاً.

“نقلوا غسان إلى مستشفى ‘فلسطين’، وكان علي أن أفكر بتدبير أمور الطفلتين حتى أستطيع الذهاب معه. تركتهما مع عائلة تعيش في مكان قريب وأخبرت جود وجنى بأنني سآخذ بيجاما لأبيهما، لأنهما رأتا العامل الصحي يمزق ملابسه. وركضت إلى المستشفى.

“وحالما وصلت هناك، أبلغني أحد الممرضين أن زوجي قد فارق الحياة. لم يكن هناك أطباء في المستشفى، لأن الدكتور علاء الدين يوسف كان قد اعتقل قبل بضعة أيام، ولذا كان الأطباء يخشون الذهاب إلى المستشفى.

“جرى ترتيب أمور الجنازة على عجل، ودفن بعد ساعتين من وفاته. ولم تسنح الفرصة لوالدته، التي كانت في لبنان، ولابنتي وابني الكبيرين بأن يودعوه.

وفي وقت لاحق من النهار، كان على سهام أن تبلغ جود وجنى أن أباهما قد توفي. قلت: “ما إن وصلتا إلى الباب، سألتا معاً: ‘أين بابا، أين بابا؟’ قلت:  صعد إلى السماء. انفعلت جود وقالت: ‘كيف يصعد إلى السماء ويتركنا؟’ فقلت:  كان بابا يريد أن يبقى معنا، ولكنه لم يستطع لأن الله أخذه معه. قالت جود: ‘ألا يجب أن يأخذ ألله العائلة كلها سوية إلى السماء؟'”

بينما كانت سهام تروي القصة، لم أستطع إلا أن أتذكر كيف كان غسان يحمل جود على كتفيه ونحن نهرول للقاء صديق كان، وسهام، يريدان لقاءه في بيروت.

كانت جود تصفع رأس والدها مداعبة بصورة متكررة بإبهامي يديها الصغيرتين وتقول: “أنا طويلة جداً ولي رأسان وكرشان”، بينما كان والدها يكركر ضاحكاً.

بعد انقضاء شهر، عادت العائلة إلى لبنان، ولكن من دون غسان. كبرت جود لتدرك أن أباها لن يعود، بينما تخبر جنى الناس بأن أباها سوف يعود.

وسهام تشعر أيضاً أن زوجها لم يغادر أبداً. “إنه معي طوال الوقت. عندما أنظر إلى السماء وهي تمطر، أراه. وعندما أصحو في الصباح، أراه بجانبي. وقبل أن أنام، أراه… فالموت لن يفرقنا”.

كان غسان الشهابي، البالغ من العمر 48 سنة، مؤسس “دار الشجرة للطباعة والنشر”.