لا أعذار تبرر خذلان سوريا

الصورة: أنقاض بنايات مدمَّرة في أعقاب ضربة جوية شنتها قوات الحكومة السورية على حلب، مارس/آذار 2014

© AP Photo/Aleppo Media Center AMC

بقلم: أنَّا نيستات، مديرة البحوث في منظمة العفو الدولية

وصلتُ إلى سوريا للمرة الأولى قبل أربع سنوات تقريباً. كانت الانتفاضة لا تزال في بدايتها، وكانت قوات الأمن قد أطلقت النار على حشود سلمية من المتظاهرين في مدينة دِرعا الواقعة جنوب البلاد. وكانت هناك عمليات قبض واسعة في ضواحي دمشق وفي مدينة حمص، حيث خرج الناس إلى الشوارع تضامناً مع أهالي دِرعا، وكانت المطالب التي يرفعونها متشابهةً مع تلك المطالب التي رُفعت آنذاك في مناطق شتى من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ألا وهي: الديمقراطية، وحقوق الإنسان وإنهاء الاستبداد.

ومع ذلك، فقد كان لا يزال بوسعي أن أذهب إلى دمشق بتأشيرة سفر سياحية، وأن أقيم في فندق مع مجموعات كبيرة من السائحين الفرنسيين المتقاعدين، الذين وفدوا للتمتع بجمال المدينة العتيقة والتجول في الأسواق الضاربة في القِدم. لم أكن في حاجة لارتداء حجاب، لأن معظم النساء في دمشق لا يضعنه، ولم يكن هناك من يأتي على ذكر “الإسلاميين”.

إلا إن التوتر كان يسود المدينة. كان أفراد أجهزة الأمن السورية السرية ذات السمعة السيئة، والتي تُعرف عموماً باسم “المخابرات”، ينتشرون في كل مكان، وكان بوسع المرء أن يستشعر نظراتهم الفاحصة بمجرد أن تخرج عن مسار الجولات السياحية. وصل زملائي وبدأنا في عقد لقاءات مع بعض المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين والنشطاء في محاولة لفهم ما يجري في البلاد.

كنتُ أبتسم وهم يصدرون لنا توجيهات يجدر أن يتناولها فيلم عن الجاسوسية، من قبيل: “توجهوا إلى محطة الحافلات… ستجدون رجلاً يحمل لفافة أوراق في يده… لا تقتربوا منه، استمروا في السير، وسوف يلحق بكم… اقفزوا إلى السيارة الأجرة الخضراء- هذا السائق معنا… احذفوا الأرقام من هواتفكم…”.

أنَّا نيستات

 كانوا حذرين، ولكنهم كانوا يتحلون بشجاعة استثنائية، وكانوا مفعمين بالأمل. كان لديهم يقين عميق بأن الأمر لن يستغرق سوى شهور ويسقط الحكم المتسلط الوحشي، الذي ظل يحكم سوريا لعدة عقود، تماماً كما سقط الحكم في مصر وتونس. وكانت لديهم آمال عريضة ببناء بلد جديد ومجتمع جديد تسوده القيم الديمقراطية وحكم القانون.

لم يكن هذا يقتصر على النشطاء المخضرمين، الذين عانوا بأنفسهم من وحشية الدولة، فقد كان من المشجِّع بالمثل مقابلة شبان صغار، ترك كثيرون منهم وظائف ذات رواتب مجزية وحياة رغدة نسبياً لكي يدعموا الانتفاضة. كانوا يقدمون المشورة القانونية لمنْ قُبض عليهم، ويشترون هواتف وآلات تصوير للمتظاهرين في دِرعا ويساعدونهم على نشر صور قوات الأمن وهي تنقضُّ على المتظاهرين، وكانوا ينقلوننا بسياراتهم ويعملون كمرشدين لنا، ولكنهم كانوا يرفضون أي مقابل مادي.

وعندما أسترجعُ هذه الذكريات في الوقت الحاضر، تمتلئ عيناي بالدموع. فكلٌ من النشطاء والأفراد الذين عملوا معنا خلال تلك الرحلة قد تعرض منذ ذلك الحين إما للاعتقال أو الاختطاف أو القتل، وإما أنه اضطُر لمغادرة البلاد. لقد خذلناهم. نعم خذلنا سوريا، عندما سمحنا بأن تتمزق البلاد بين قوات موالية للرئيس الأسد وجماعات متشددة، دون أن يكون هناك مجال للمعارضة الداعية إلى إصلاحات تقوم على احترام الحقوق الأساسية، وهي المعارضة التي كانت بوادرها قد بدأت في الظهور في مطلع عام 2011.

وخلال هذه الرحلة الأولى إلى دمشق وإلى ضواحيها وإلى مدينة حمص وبعض المدن الأخرى على طول الساحل، بدأنا في توثيق الجرائم التي ترتكبها قوات الأمن السورية، من قبيل قتل متظاهرين سلميين وإعدام معتقلين وحملات الاعتقال التعسفية الواسعة، فضلاً عن التعذيب المتفشي. لم يكن هناك أي صحفيين أجانب تقريباً في سوريا في ذلك الوقت، فكنا نشعر بأننا لو استطعنا أن نسارع بنشر أنباء هذه الانتهاكات، فسوف يحتشد المجتمع الدولي ويتحرك قبل أن يخرج الموقف عن نطاق السيطرة.

وخلال الشهور التالية، ومع اشتداد حدة القمع، وبدء تدفق النازحين على البلدان المجاورة، والتعرف عشرات من الجنود والضباط الذين فرُّوا من القوات المسلحة السورية و”المخابرات، جمعنا أدلة وفيرة تبين أن الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الحكومية تُعد بمثابة جرائم ضد الإنسانية، كما توصلنا إلى تحديد أسماء عدد من القادة العسكريين ومسؤولي أجهزة الأمن الذين أصدروا أوامر مباشرة بارتكاب تلك الانتهاكات، أو كانوا مسؤولين عنها بشكل أو آخر.

وحظيت النتائج التي توصلنا إليها بتغطية واسعة في جميع وسائل الإعلام الرئيسية. ولم يكن بوسع أي شخص تقريباً في ذلك الوقت أن يغضَّ الطرف عن تلك المعلومات، فقد كانت متاحةً لمن يتصفح الصحف والمجلات، أو يشاهد محطات التليفزيون أو يستمع إلى المذياع، أو يتجول بين مواقع الإنترنت. وفي واشنطن وباريس ولندن وجنيف وموسكو وطوكيو وغيرها من العواصم في شتى أنحاء العالم، قضيتُ مع زملائي ساعات طوال نتحدث مع مسؤولين عن الوضع في سوريا وعن مخاطر التقاعس عن التحرك. والتقيتُ أنا شخصياً مع أغلب المندوبين الأمريكيين إلى الأمم المتحدة في نيويورك.

كان كل دبلوماسي وكل مسؤول في السياسة الخارجية يعلم جيداً ما الذي يجري في سوريا.

أنَّا نيستات

وفي عام 2012، وقعت مناطق على الحدود في شمال سوريا تحت سيطرة ما أُطلق عليه اسم “الجيش السوري الحر”، والذي تشكَّل من عسكريين منشقين على القوات المسلحة ومواطنين سوريين عاديين ممن أصبحوا على يقين من أن الوسائل السلمية لم تعد كافيةً لإحداث تغيير. وعندئذ، بدأنا في توثيق الانتهاكات التي يرتكبها الطرفان في غمار النزاع الذي كان قد تحول منذ ذلك الوقت إلى نزاع مسلح على نطاق كامل.

وقد دمَّرت القوات الحكومية بعض الأحياء بقذائف المدفعية، ونفذت عمليات اجتياح في بعض القرى والبلدات، واعتقلت وعذَّبت وأعدمت مئات الأشخاص. ولا يزال مصير أو مكان مئات آخرين في طي المجهول حتى اليوم. كما كانت قوات المعارضة مسؤولة عن انتهاكات في مراكز الاحتجاز التي أقامتها حديثاً، وكذلك عن عدد من عمليات القتل دون محاكمة لأشخاص اشتُبه في أنهم من المتعاطفين مع الحكومة.

ومع ذلك، فحتى منتصف عام 2012، لم يكن أحد يشاهد رجالاً ملتحين يرتدون ملابس سوداء ويغطون وجوههم بعصابات سوداء في شوارع إدلب أو حلب. وقد عبر عشرات الصحفيين إلى شمال سوريا دون أي خوف من التعرض للاختطاف على أيدي الجماعات الإسلامية المتشددة. وكان من تحاورنا معهم من أفراد “الجيش السوري الحر” أو من الضباط المتقاعدين أو الفارين من الجيش، وبينهم كثيرون تلقوا تدريبهم في الاتحاد السوفيتي السابق، يبدون إمارات الاستهزاء والسخرية عندما نسألهم عن المجموعات الصغيرة مما سُمي “جبهة النُصرة”، والتي كانت قد بدأت في الظهور آنذاك في مناطق المرتفعات الجبلية. وكانوا يردون بالقول “هؤلاء الهمج لن يلقوا ترحيباً هنا”.

إلا إن عمليات القصف الجوي غيَّرت كل شيء. وأذكر كيف كنا في أغسطس/آب 2012 نلجأ، مع عدد من أهالي حلب، إلى الاختباء في الطوابق السُفلى وقد تملكنا الرعب وعدم التصديق. كنا نسمع أصوات الطائرات وهي تقترب، ثم يتبعها دوي سقوط القنابل. ولدى خروجنا في أعقاب القصف، كنا نرى عمارات سكنية بأكملها وقد سُويت بالأرض، وسحائب التراب وهي تملأ المكان، وكان بوسعنا أن نرى أشلاء الجثث وسط بقايا محتويات التي تناثرت في كل مكان. كنا نسارع بالتقاط صور وأفلام وإجراء مقابلات وسط الفوضى العارمة التي تعم المكان. وكان يحدونا الأمل مجدداً، ورغم كل شيء أن هذه الصور وهذه الأدلة على وحشية الهجمات التي تشنها القوات الحكومية على مستشفيات ومخابز ومنازل وهذه الأعداد الكبيرة من القتلى من مواطني البلد، ستكون كافيةً لكي يتذكر قادة العالم تعهدهم بأن هذا “لن يتكرر مطلقاً”.

ولكن الأمر لم يكن كذلك. ولم يتغير الوضع مع الهجمات بالأسلحة الكيمياوية، حيث كانت كل الأدلة تشير إلى مسؤولية القوات الحكومية. وهكذا، واصل الأسد وقواته الإفلات من المساءلة عن عمليات القتل، حيث كان يتحصن، من جهة، بدعم روسيا التي تغدق عليه بالمساعدات، ومن جهة أخرى، بالتقاعس الكامل عن الحسم من جانب الدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن الدولي. وبعد ذلك، كان الوقت قد تأخر كثيراً. فعندما عدنا إلى سوريا في وقت لاحق من العام نفسه، كنتُ بالكاد أتعرف على الأماكن المعتادة. وكانت أجزاء كثيرة من حلب ومن المناطق الريفية قد سقطت أولاً تحت سيطرة “جبهة النُصرة”، ثم لاحقاً تحت سيطرة الجماعة المسلحة التي تُطلق على نفسها اسم “الدولة الإسلامية”. وقد استولت هذه الجماعة على مناطق بأكملها وأقامت فيها حُكماً يستند إلى تفسير متشدد لأحكام الشريعة الإسلامية، ونفذَّت عمليات جلد وبتر للأطراف و”إعدام” على الملأ، كما اختطفت وقتلت بعض الأجانب

قُتل عشرات الآلاف، وفرَّ ملايين إلى خارج البلاد، ومع ذلك لم يكن هناك أي رد فعل. هل يمكن أن تكون هناك تُربة أكثر ملائمةً من تلك لكي يأتي الإسلاميون ويسيطروا؟

مازن، مهندساً زراعياً تحول إلى زعيم للاحتجاجات في إدلب فى 2013

من الصحفيين وموظفي الإغاثة. وقد حاول مقاتلو “الجيش السوري الحر”، وغيرهم من مقاتلي المعارضة في حلب، محاربة تلك الجماعة ولكنهم سرعان ما استسلموا لقوات الجماعة التي تحظى بتمويل وفير وتزداد قوةً ونفوذاً.

 وخلال رحلتي الأخيرة إلى سوريا، في عام 2013، جلستُ لأتناول كوباً من الشاي مع صديق قديم، وهو مازن، الذي كان يعمل مهندساً زراعياً وتحول إلى زعيم للاحتجاجات في إدلب. كان مازن من قبل شخصاً مرحاً بشوشاً لا يكف عن الابتسام حتى في أشد لحظات الخطر. أما الآن فقد اعتزل نشاطه مع صعود الجماعات الإسلامية المسلحة، وما جلبته معها من أوضاع. وقد لخَّص الموقف كله بعبارات بليغة، وقدم لي بعض النصائح البسيطة، قال:

“لقد انتظر الناس، وظلوا ينتظرون وينتظرون أن يلتفت الغرب إلى مصيرنا. كنا نلوِّح بأغصان الزيتون، فنُقابَل بطلقات الرصاص في صدورنا، ولم ينطق أحد بكلمة عن ذلك. حاولنا أن نقاوم، أن نحمي أنفسنا، فوُصمنا بأننا “إرهابيون”. قُتل عشرات الآلاف، وفرَّ ملايين إلى خارج البلاد، ومع ذلك لم يكن هناك أي رد فعل. هل يمكن أن تكون هناك تُربة أكثر ملائمةً من تلك لكي يأتي الإسلاميون ويسيطروا؟ هؤلاء لا يهتمون بالدعاية، فالناس يعتقدون بعمق أنهم الأمل الوحيد، لأنه لا يوجد أحد آخر على استعداد لمساعدتنا ضد النظام. أما أنتِ فلن يكون بإمكانك أن تعودي هنا مرة أخرى. سوف يقتلونكِ، ولن نستطيع أن نوفر لكِ الحماية. لقد ظللتِ على مدى ثلاث سنوات متتالية تُظهرين أمام أعين العالم حقيقة ما يحدث هنا، ولكن العالم اختار أن يُحيل بصره إلى وجهة أخرى”.

غادرتُ سوريا ولم أعدْ إليها. ويرجع ذلك، من جانب، إلى أن خطر الاختطاف على أيدي مقاتلي “الدولة الإسلامية” أصبح خطراً ماثلاً لا يمكن التحكم فيه، كما يرجعُ، من جانب آخر، إلى أن مازن كان على حق. فأنا لم أعرف ما الذي يتعين علينا أن نفعله لوقف نزيف الدماء. كانت الكراسات التي سجلتُ فيها الشهادات والحكايات تحوي أدلة تكفي لإدانة الرئيس بشَّار الأسد ومعظم القادة التابعين له مراتٍ ومراتٍ. وكلُّ مسؤول في مواقع السلطة في شتى أنحاء العالم يعرف جيداً ما الذي يحدث في سوريا. ولكن، حتى الآن يبدو العالم موحداً في إصراره على سحق تنظيم “الدولة الإسلامية”، بينما يتناسى ببساطة أن هذا الموقف كان في بعض مناطق سوريا في مصلحة القوات الحكومية، التي يعود سجلها في ارتكاب الفظائع إلى أزمنةٍ بعيدة.

لن أكرِّر هنا جميع الحجج والأعذار، الاستراتيجية والجغرافية السياسية، والاقتصادية، والعسكرية وغيرها من الأعذار، التي تمنع عديداً من الأطراف الدولية الفاعلة عن القيام بدور أكثر حسماً في سوريا. فأنا على يقين الآن من أنه لا يوجد أي سبب على الإطلاق يبرر التقاعس في مواجهة تلك الفظائع. ومن ثم، فأنا أرفضُ اللجوء إلى أية أعذارٍ تُريح ضمائر أولئك الذين لم يكتفوا بالسماح بهذه المذابح المتواصلة للمدنيين فحسب؛ بل وساقوا المنطقة بأسرها إلى حافة الهاوية.

* أجرت أنَّا نيستات بحوثاً في سوريا بحكم عملها آنذاك كباحثة في حالات الطوارئ لدى منظمة “هيومن رايتس ووتش”

تابع تغريدات أنَّا نيستات على Twitter

إقرأ المزيد:

سوريا: هجمات وحشية وغير مشروعة للقوات الحكومية تقتل عشرات المدنيين في الرقَّة