عبور الحدود براً وبحراً من سوريا إلى ألمانيا

في عدد شباط/مارس الماضي من مجلتنا “أصوات في محنة“، وصف لنا اللاجئ الفلسطيني أبو العبد الذي يقيم منذ أمد طويل في سوريا المخاطر والصعاب التي واجهته على صعيد عمله في مجال توفير الخدمات الطبية في حي اليرموك جنوبي دمشق الذي لا يزال مسرحاً للمعارك رغم الحصار المضروب عليه.

ونتابع قصة أبو العبد من حيث انتهى في العدد الماضي، حيث يسرد على مسامع منظمة العفو الدولية الآن تفاصيل نجاحه في الفرار إلى ألمانيا.  وتشمل قصته فصولاً كثيرة من دفع الرشى والمرور بعشرات نقاط التفتيش والتواطؤ بين الجماعات المتحاربة وعبور تسعة بلدان واجتياز البحر الأبيض المتوسط الذي شهد غرق نحو 8000 شخص خلال العامين الماضيين.  ويسرد أبو العبد قصته قائلاً:

“اضطُررت إلى مغادرة اليرموك لأن رأسي مطلوب لدى جميع الأطراف على الرغم من أن كل ما قمت به هو مزاولة الأنشطة الطبية في المخيم (والمقصود هنا هو مخيم اليرموك الذي يُشار إليه بالمخيم نظراً للعدد الضخم من اللاجئين الفلسطينيين الذين يقمون فيه).  وكغيري من الناشطين في المجال الطبي، فلقد كنت مطلوباً لدى النظام السوري (الذي قامت قواته بمهاجمة المخيم وضربت عليه حصاراً منذ العام 2012)، ولقد أفلحوا في إطلاق النار والتسبب بإصابتي في مناسبتين.  كما إنني مطلوب لدى بعض الجماعات المسلحة التي تعمل تحت مظلة الجيش السوري الحر (وهو عبارة عن ائتلاف من جماعات المعارضة المسلحة) نظراً لمكوثي داخل اليرموك بعد سيطرة جبهة النصرة (المرتبطة بالقاعدة) وداعش على غالبية مناطق المخيم.  وعلاوة على ذلك، فأنا مطلوب لدى الجماعات الإسلامية جراء ما أحمله من معتقدات سياسية يسارية وكوني غير ملتزم دينياً.

وقيل لي في إحدى ليالي ديسمبر/ كانون الأول 2015 أنه يتعين علي أن أغادر في الصباح دون أن أحمل أية أوراق ثبوتية. فقد تم التوصل إلى اتفاق مع أحد عناصر قوات النظام يتكفل بموجبه بإخراجي من اليرموك. وبلغت تكلفة مغادرة المخيم بهذه الطريقة نحو 300 ألف ليرة سورية (حوالي 1400 دولار) للشخص الواحد. واضطُررت للاستعداد في إطار من السرية التامة لأن جبهة النصرة تحتجز وتعذب كل شخص تسمع أنه يحاول مغادرة المخيم.

أبو العبد، لاجئ فلسطيني والذي يقيم منذ أمد طويل في سوريا

“وقيل لي في إحدى ليالي ديسمبر/ كانون الأول 2015 أنه يتعين علي أن أغادر في الصباح دون أن أحمل أية أوراق ثبوتية.  فقد تم التوصل إلى اتفاق مع أحد عناصر قوات النظام يتكفل بموجبه بإخراجي من اليرموك.  وبلغت تكلفة مغادرة المخيم بهذه الطريقة نحو 300 ألف ليرة سورية (حوالي 1400 دولار) للشخص الواحد.  واضطُررت للاستعداد في إطار من السرية التامة لأن جبهة النصرة تحتجز وتعذب كل شخص تسمع أنه يحاول مغادرة المخيم.

كانت نقطة التفتيش الأولى تابعة للجيش السوري الحر، ولقد أفلحت في عبورها بسلام بعد أن تظاهرت بأني مواطن مصري.  وقام عسكري عند نقطة التفتيش التالية التابعة لقوات النظام باقتيادي من يدي إلى أحد المنازل الآمنة خارج اليرموك.  ودفعت هناك 1000 دولار لأحد كبار ضباط المخابرات قبل أن يقوم أحد عناصر الأمن بنقلي إلى حماه، ومررنا بنحو 30 نقطة تفتيش على الطريق أفلحنا في اجتيازها بعد أن كان يبرز هويته عند مرورنا بكل واحدة منها.  ومكثت في حماه مع آخرين كثر يعيشون وضعاً مشابهاً، وبقينا داخل قبو من الصباح حتى وقت متأخر من العصر، ثم وصل ضابط من المخابرات الجوية، وتم توزيعنا على سيارات في مجموعات تكونت كل واحدة منها من ستة أشخاص، وكانت السيارات مزودة بزجاج عاكس يحجب رؤية ما في داخلها، وتوجهنا إلى منطقة تقع خارج المدينة.  وتم تزويد مجموعتنا باسم ضابط المخابرات الكبير الذي يُعد مسؤولاً عن عدم تعرضنا للاعتقال.  وانتظرنا هناك إلى أن هبط الظلام. 

ثم توقفت بقربنا سيارة مصفحة ضخمة، مزودة برشاش على ظهرها، ترافقها سيارتان من الأجهزة الأمنية.  وصعد نساء وأطفال ونحو 20 رجلاً في صندوق السيارة المصفحة، وجلست أنا وخمسة رجال خلف مقعد السائق؛ فيما جلس زميله فوق صناديق الذخيرة، واستمرت رحلتنا مدة ساعة على هذه الحال مررنا خلالها بنحو 19 نقطة تفتيش تتبع لأجهزة مختلفة من تشكيلات قوات الأمن الحكومية.

وأوصلونا إلى مزرعة كبيرة تقع في منطقة مهجورة انتظرنا فيها طوال ساعة أخرى ظلت السيارات في الأثناء تجيء إلى المزرعة وتغادرها.  ووصلت المكان ثلاثة سيارات نقل من طراز ميتسوبيشي يقودها عناصر من جبهة النصرة، الأمر الذي كان مفاجئاً بالنسبة لنا.  فلقد كانت أعلام جبهة النصرة ترفرف على تلك السيارات.  وصعد شباب إلى صناديق تلك السيارات وتم إخفائهم تحت الأغطية؛ فيما تسلق الباقون منا خلف السائق، ومررنا بتسع نقاط تفتيش ودفعنا مبالغ مالية عند كل نقطة.

وتوقفنا مدة يوم واحد بإحدى المزارع في إدلب شمال سوريا والخاضعة لسيطرة الجماعات المسلحة، حيث جرى تقسيمنا مجدداً هناك وركبنا طيلة خمس ساعات في حافلة صغيرة مزودة بزجاج مظلل إلى أن وصلنا إلى مجمع الحافلات الذي تديره جبهة النصرة.  ومن هناك يمكن للمرء أن يستقل الحافلة إلى تركيا واضطُرت النساء لارتداء النقاب على أن يرافق كل واحدةٍ منهن أحد أقاربها الذكور.  واضطُر بعض الأشخاص إلى دفع مبلغ 40 ألف ليرة سورية (180 دولارا) إضافية للتوجه إلى تركيا.  وركبنا الحافلة باتجاه قرية قريبة من مقاطعة هاتاي التركية، ومررنا بنقطة تفتيش تابعة لجبهة النصرة قبيل وصولنا القرية.  ولاحظت أن بعض العناصر المتواجدين في نقطة التفتيش كانوا أجانب وبالكاد يتحدثون العربية؛ فيما تحدث آخرون مع الشباب الذين يحاولون مغادرة سوريا، ورغبوهم بالجهاد منوهين بأنه من الخطأ مغادرة البلاد.  واقتنع بعض الشباب بكلامهم، دون شك، وعادوا أدراجهم من حيث أتوا.

وتسيطر حركة أحرار الشام (من المعارضة المسلحة) على آخر نقطة تفتيش على الطريق المؤدي إلى تلك القرية.  وتصادف يومها أن الحركة أصدرت قراراً لتوها بعدم المشاركة في عملية التهريب، وألقت القبض على بعض سائقي الحافلات، وتمت إعادة الكثيرين من حيث أتوا.  وتوقف سائق حافلتنا قبل بلوغ نقطة التفتيش، واتصل بأحد معارفه من حركة أحرار الشام، ثم جاءت حافلة تابعة للحركة، وتم نقلنا إليها وابتعدت بنا مسافة قصيرة بعيداً عن الأنظار.  ثم تمكنا من المرور عبر نقطة التفتيش التابعة لأحرار الشام، ووصلنا القرية التي مكثنا فيها إلى ما بعد غروب الشمس، ومن ثم تم اقتيادنا إلى أعلى قمة تلة قريبة، ووجدنا أنفسنا بجوار طريق معبد يسير حرس الحدود الأتراك دوريات مراقبة عليه.

وألقى حرس الحدود الأتراك القبض علينا، حيث وضعونا بادئ الأمر في خيمة كبيرة رفقة 300 رجل وامرأة، ثم تم احتجازنا في ملعب خارجي لكرة السلة. كان الجو بارداً جداً.

أبو العبد

وألقى حرس الحدود الأتراك القبض علينا، حيث وضعونا بادئ الأمر في خيمة كبيرة رفقة 300 رجل وامرأة، ثم تم احتجازنا في ملعب خارجي لكرة السلة.  كان الجو بارداً جداً، وأعطونا أوراقاً بالتركية في منتصف الليل وأخبرونا بأن نوقع بأسمائنا على قصاصة ورق مع تواريخ الميلاد وبلداتنا، وقالوا إننا نتعهد بعدم العودة إلى تركيا بمجرد توقيعنا على تلك الأوراق.  ولم يتحققوا مما قمنا بكتابته فكان بوسعنا كتابة أي شيء على تلك الأوراق، وتم اقتيادنا إلى الحدود السورية مجدداً بعد التوقيع على الأوراق، ونُقلت النساء والأطفال بالحافلات؛ فيما مشى الرجال على الأقدام تحت مراقبة حرس الحدود الأتراك إلى أن وصلنا الحدود السورية على بعد كيلومتر واحد”.

ولقد سبق لمنظمة العفو الدولية وأن وثقت قيام تركيا بإجبار مئات الفارين من سوريا على العودة قسرا،ً بالإضافة إلى قيام حرس الحدود الأتراك بقتل بعض الأشخاص وإصابتهم أثناء محاولتهم عبور الحدود قادمين من سوريا.

وتابع أبو العبد سرد قصته قائلاً:

“كان السائق نفسه الذي ينتمي لأحرار الشام بانتظارنا على الجانب السوري من الحدود، وقام بإعادتنا إلى نفس المهرب، حيث مكثنا ننتظر ليلة أخرى، ثم سرنا على الأقدام مجدداً نحو تركيا باستخدام نفس المسلك.  وتابعنا سيرنا مدة ساعة، قبل أن نجد أنفسنا على الجانب التركي من الحدود، ولنجد حافلة نقل كبيرة من طراز فورد بانتظارنا. وقد وصل عددنا إلى بضعة عشرات من الأشخاص هذه المرة.  وأُجبر كل واحد منا على دفع مبلغ 10 آلاف ليرة سورية للمهربين (45 دولاراً)؛ كي يتم نقله إلى محطة الحافلات في مدينة انطاكيا التركية.  وأخبرنا المهربون أننا إذا لم ندفع المبلغ المطلوب لهم فسوف يبادرون بتسليمنا إلى قوات الأمن التركية.  ثم قيل لنا قبل أن نصل موقف الحافلات في انطاكيا بقليل أن نترجل من الحافلة ونشتري تذاكر الحافلة إلى إزمير بسعر يصل إلى ضعف السعر العادي.  وتعرض رجلان رفضا دفع المبلغ المطلوب للضرب المبرح على أيدي المهربين.

ثم ركبنا الحافلة إلى إزمير، ومن ثم توجهنا جنوباً من هناك باتجاه بلدة ساحلية تُدعى ديديم، ووجدنا المهربون بانتظارنا فيها.  وكنا قد اتفقنا مسبقاً مع أحد الأشخاص على دفع مبلغ 700 دولار لكل شخص مقابل العبور بالقارب إلى اليونان.  وأجبر المهربون الشباب بيننا على حمل القارب المطاطي المزود بمحرك وإنزاله في الماء.  ثم ركب نحو 45 شخصاً، وأنا معهم، القارب ورافقنا اثنان من المهربين اللذان شرحاً بعجالة لأحد الركاب كيف يقوم بتوجيه القارب، ثم سرعان ما قفزا من القارب وعاداً إلى اليابسة.

وانطلقنا من الساحل التركي باتجاه اليونان، واقتربنا من إحدى الجزر بعد ساعة من الإبحار، ومن ثم استل اللاجئ الذي كان يوجه القارب سكينا وثقب القارب المطاطي، وأعتقد أن المهربين هم من أخبروه بأن يفعل ذلك بحيث يتعذر إعادة القارب إلى تركيا مجدداً.  ثم سقطنا جميعاً في الماء بما ففي ذلك رضيع لم يتجاوز شهراً واحداً من العمر وكدنا نغرق جيعاً.  ولحسن الحظ، قدم بعض الذين سبقونا في الوصول إلى نفس المكان يد العون لنا حيث كدنا نتجمد من برودة المياه، ثم أُشعلت النار واكتشفنا أننا على جزيرة تُدعى فارماكونيسي (التي تقع على بعد نحو 15 كم إلى الجنوب الغربي من ديديم)، وتقع تحت سيطرة القوات المسلحة اليونانية.

ومكثنا هناك خمس ساعات، وتم تزويد الأطفال فقط ببعض الماء والبطانيات.  ثم وصل قارب وأقل مجموعة منا تجاه جزيرة أخرى تُدعى ليروس على بعد ساعتين، وأخذ المسؤولون اليونانيون بطاقات الهوية التي نحملها، وأخذوا بصمات أصابعنا، وأودعونا داخل أحد مخيمات اللاجئين، وزودونا ببعض المواد الإغاثية.  وظللنا على الرصيف داخل المخيم جراء عدم توفر الأماكن.  وتم تزويدنا بأوراق ثبوتية، وتم حجز تذاكر لنا على متن القارب المتجه إلى أثينا في رحلة تستغرق10 ساعات، ودفعنا مبلغ 41 يورو (46 دولارا) ثمناً للتذكرة.

ثم ركبنا الحافلة من أثينا إلى الحدود المقدونية، وأخبرني أحد حراس الحدود المقدونيين أن أرجع إلى اليونان لأنه مكتوب على وثيقتي كلمة “فلسطيني”، ولكنني أقنعته بأنني سوري وسمح لي بالدخول.  ولقد عاملنا المسؤولون المقدونيون بقسوة، بل وأقدموا أحياناً على ضرب النساء، على النقيض من الجيش اليوناني الذي كان عناصره كرماء معنا.  ثم ركبنا القطار إلى الحدود مع صربيا ثم حافلتين مختلفتين وقطاراً إلى كرواتيا.  وقامت الشرطة الكرواتية بتفتيشنا، والتقطت صورنا، وأخذت بصمات أصابعنا.  ثم ركبنا قطاراً آخرا نحو سلوفينيا، حيث قامت الشرطة هناك بتفتيشنا أيضاً والتقاط الصور وأخذ البصمات.  ثم توجهنا إلى النمسا بالقطار، ومن ثم بالحافلة قبل أن نصل إلى الحدود الألمانية في نهاية المطاف.  واستغرقت الرحلة بأكملها من مخيم اليرموك إلى ألمانيا نحو 11 يوماً.

ألمانيا بلد جميل وشعبها طيب، ولكنني أشعر أنني غريب بكل معنى الكلمة هنا.  وهذا على الرغم من المعاملة الرائعة التي ألقاها من أصدقائي الجدد هنا، ولا يُسمح لي بالعمل كوني لا أحمل الوثائق المطلوبة بحوزتي، وهو ما يفاقم من شعوري بالوحدة.  وأشعر بالحنين إلى سوريا على الرغم من أنني فلسطيني الجنسية”.

تريد منظمة العفو الدولية أن يقوم قادة أوروبا بفتح مسارات آمنة وقانونية أمام اللاجئين بحيث يمكنهم الوصول إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، وطلب اللجوء فيها دون اضطرارهم لخوض غمار مخاطر عبور البحر في قوارب مكتظة أو السير مئات الأميال حاملين أطفالهم ومقتنياتهم على ظهورهم.  وبدلاً من أن يُضطر اللاجئون إلى دفع مدخراتهم للمهربين، فمن الأجدر أن تُتاح لهم فرصة إنفاقها على بدء حياة جديدة لهم في الاتحاد الأوروبي.