بقلم شريف السيد علي، نائب مدير برنامج القضايا العالمية بمنظمة العفو الدولية
بعد الساعة الرابعة بقليل من عصر يوم أمس، تلقت منظمة العفو الدولية رسالة عبر البريد الإلكتروني من محكمة الصلاحيات التحقيقية الخاصة التي تنظر في قضايا تتعلق بوكالات الاستخبارات في المملكة المتحدة. لقد كانت الرسالة مقتضبة ولكن كان لها وقعاً مدوياً.
فلقد جاء فيها ما يفيد بوقوع خطأ في نص قرار المحكمة الخاصة قبل 10 أيام على ذمة إحدى القضايا التي حركتها 10 منظمات معنية بحقوق الإنسان ضد برامج الرقابة الجماعية التابعة لحكومة المملكة المتحدة. وعلى النقيض من قرار الحكم الأصلي، فلقد ثبت أن اتصالاتنا في منظمة العفو الدولية قد كانت تخضع لرقابة غير قانونية من لدن هيئة مقر الاتصالات الحكومية، بوصفها الجهة المعنية بالإشراف على الإشارات والاتصالات الاستخبارية في المملكة المتحدة. وعلى نحو لا يُصدق، فلقد حدد القرار الأولي من باب الخطأ هوية المنظمة التي تعرضت للرقابة والتنصت على أنها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، واستغرق الأمر 10 أيام لتصويب هذا الخلط الغريب والمدهش في آن معاً.
ولا شك أن هيئة مقر الاتصالات الحكومية ونظيرتها في الولايات المتحدة، أي وكالة الأمن القومي، تتجسسان على طائفة واسعة من المنظمات بخلاف منظمة العفو الدولية
شريف السيد علي، نائب مدير برنامج القضايا العالمية بمنظمة العفو الدولية
ولقد حملت هذه الأنباء معها شعورا غير متوقع بالراحة لا يخلو من الغرابة حيث لطالما راودتنا شكوك قوية بأن هيئة مقر الاتصالات الحكومية تتجسس علينا، ولكن أن يتم تأكيد ذلك عن طريق المحكمة، فلهو نِعْم الإثبات أننا لم نكن نعاني من جنون الارتياب. ولا شك أن هيئة مقر الاتصالات الحكومية ونظيرتها في الولايات المتحدة، أي وكالة الأمن القومي، تتجسسان على طائفة واسعة من المنظمات بخلاف منظمة العفو الدولية. فلقد كشف نفس القرار الصادر عن محكمة الصلاحيات التحقيقية الخاصة عن قيام هيئة مقر الاتصالات الحكومية بمراقبة مركز الموارد القانونية في جنوب أفريقيا بشكل غير مشروع أيضاً.
ويُظهر ما سربه المبلغ عن المخالفات إدوارد سنودن من معلومات أن هيئة مقر الاتصالات الحكومية ووكالة الأمن القومي قد تجسستا على منظمتي “أطباء العالم” “واليونيسيف” بالإضافة إلى التجسس على الكثير من المنظمات والجمعيات الخيرية – فإن عدم تأكيد محكمة الصلاحيات التحقيقي الخاصة ثبوت التجسس على المنظمات الثماني الأخرى لا ينفي بالضرورة عدم التعرض لاتصالاتها من قريب أو بعيد، بل لربما قد تم التجسس عليها، ولكن ارتأت المحكمة أن ذلك قد تم بطريقة قانونية.
وتسلط هذه العملية برمتها الضوء على مشكلة ما يُعرف “بالرقابة” على برامج الرقابة والتجسس البريطانية. إذ يُناط أمر إصدار مذكرات الرقابة في المملكة المتحدة بوزير حكومي وليس بالقضاة، وعليه فإن السلطة التنفيذية تضطلع بنفسها بمهام تفويض وكالاتها بالقيام بالتجسس دون اللجوء إلى القضاء.
وإن السبب الوحيد الذي مكننا من معرفة أن اتصالاتنا يتم اعتراضها والاطلاع عليها والنفاذ إليها وتخزينها هو قيام هيئة مقر الاتصالات الحكومية بتخزينها لوقت أكثر مما تسمح به اللوائح الداخلية لدى الهيئة
شريف السيد علي
وبصفتها الهيئة القضائية الوحيدة المخولة صلاحية النظر في ممارسات أجهزة الاستخبارات البريطانية، تُجري محكمة الصلاحيات التحقيقية الخاصة جميع مداولاتها تقريباً سراً خلف أبواب مغلقة. ولقد قبلت المحكمة ببساطة بموقف الحكومة المتمثل برفضها التأكيد او الإنكار علناً قيامها بأية ممارسات أو برامج رقابة وتجسس من هذا النوع. وكمدعين مشتكين على الحكومة البريطانية في القضية، لم تطلع المنظمات العشر بما فيها منظمة العفو الدولية على هذه السياسات السرية التي تحكم الممارسات الرقابية والتجسسية، وهي سياسات وممارسات ظلت طي الكتمان باستثناء النزر اليسير منها الذي عُرض على عُجالة أمام القضاة في جلسات سرية لم يُسمح لأحد بحضورها باستثناء محامي الحكومة.
وإن السبب الوحيد الذي مكننا من معرفة أن اتصالاتنا يتم اعتراضها والاطلاع عليها والنفاذ إليها وتخزينها هو قيام هيئة مقر الاتصالات الحكومية بتخزينها لوقت أكثر مما تسمح به اللوائح الداخلية لدى الهيئة.
ويُذكر أن محكمة الصلاحيات التحقيقية الخاصة تُصدر نوعين من القرارات فقط، أولهما قرار لصالح المدعي كما حصل في قضية منظمة العفو الدولية حيث قضت المحكمة أنه قد تم اعتراض اتصالات المنظمة بطريقة غير مشروعة. ولكننا لا نعلم متى حدث ذلك وطبيعة المواضيع وعدد المرات التي تكرر فيها القيام بهذه الممارسة ومصير المعلومات التي تم اعتراضها والاطلاع عليها وما إذا تم إطلاع حكومات أخرى عليها أم لا أو إذا كانت الممارسة لا زالت مستمرة أم لا. فما زلنا نجهل كل هذه التفاصيل حتى الآن.
وأما النوع الآخر من قرارات المحكمة الخاصة فهو القرار الذي صدر بخصوص المنظمات الثمان الأخرى، وقضى بعدم وجود مخالفة للقانون بشأنها. وعليه، فإما لم يتم التنصت على هذه المنظمات أبداً، أو أنه قد جرى التنصت عليها فعلاً ولكن بطريقة ارتأت المحكمة الخاصة أنها طريقة قانونية. ولا زلنا نجهل التفاصيل على هذا الصعيد أيضاً ولا نعلم الحقيقة.
ويقودنا ذلك إلى الحديث عن الإصلاحات التي من الضروري إدخالها على تشريعات الرقابة والتجسس في المملكة المتحدة. فلقد انتقد الشهر الماضي المراجع الحكومي المستقل المعني بتشريعات مكافحة الإرهاب، ديفيد أندرسون، قانون “تنظيم الصلاحيات التحقيقية” الذي تستند إليه جميع الصلاحيات الرقابية. فلقد ارتأي المراجع في تقديره أن القانون المذكور “غامض منذ إصداره وتم ترقيعه في مناسبات أكثر من اللازم بحيث يستعصي فهم نصوصه إلا على ثلة من القائمين على إصداره أصلاً”. ودعا أندرسون إلى سن قانون جديد يكون “سلس الفهم” واشتراط استصدار مذكرات قضائية لاعتراض الاتصالات والتنصت عليها.
ولم يكن رد الحكومة مشجعاً حتى الآن. فيظهر أن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون يريد الاحتفاظ بصلاحية إصدار المذكرات ضمن نطاق حكومته. ويبدو أن أحد أهم مبادئ سيادة القانون، أي المذكرات الصادرة عن القضاء، هو مبدأ أثقل من أن تتقبله الحكومة البريطانية.
إن شواغلنا المتعلقة بالرقابة الجماعية لا تقتصر على المنظمات المعنية بحقوق الإنسان، وإن كان استهداف مثل هذه المنظمات أمر جدّ مقلق بحد ذاته. فالرقابة الجماعية تنتهك الخصوصيات وتشكل تغولاً خطيراً لصلاحيات الحكومة وافتئاتها على حياتنا الخاصة وحرية التعبير عن الرأي. بل قد يشكل ذلك في بعض الظروف والأحوال خطراً على حياة المعنيين وقد تستخدم هذه المعلومات للنيْل من مصداقية الأشخاص أو التدخل في التحقيقات التي تُجرى في انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الحكومات.
وثمة أسبابٌ وجيهة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن الحكومة البريطانية مهتمة بما نقوم به من عمل. فلقد حرصنا خلال ماضي السنوات على التحقيق في جرائم الحرب المحتملة التي ارتكبتها القوات البريطانية والأمريكية في العراق ومدى ضلوع حكومات الدول الغربية في برنامج وكالة المخابرات المركزية المعني بالتعذيب والمعروف باسم برنامج تسليم المعتقلين استثنائياً وعمليات القتل المشينة التي نفذتها الطائرات الأمريكية بلا طيار بحق المدنيين في باكستان، ولقد كُشف النقاب مؤخراً عن احتمال قيام هيئة مقر الاتصالات الحكومية بتقديم المساعدة في الغارات التي شنتها الطائرات الأمريكية بلا طيار. وإن إحاطة الأمر بطابع من الغموض والتعقيد والسرية والتصميم على تفادي أي رقابة فعلية لهو أمر جدير بنظام ديكتاتوري واهم. فلقد حان وقت إخضاع سلوك الحكومة البريطانية لرقابة الرأي العام. فيجب أن نعرف ما هي برامج الرقابة والتجسس الجماعية التي تديرها الحكومة وما هي حدود ما تعتبره تجسساً مقبولاً ومبرراً والأسباب الكامنة وراء ذلك كله.
ونحن بأمس الحاجة إلى إصلاحات تشريعية تكفل تفادي ارتكاب الحكومة ووكالاتها الاستخبارية لتجاوزات مستقبلاً.
ولكن يجب أن يواكب ذلك تحقيق المساءلة على صعيد ماضي الأفعال؛ وعلينا أن نجيب على الأسئلة التالية: كيف تأتى لحكومة بلد أعلن نفسه نصيراً لحقوق الإنسان ومدافعاً عن الديمقراطية أن تسمح “لأشباحها” إدارة برنامج رقابة جماعية ضخم في ظل غياب رقابة فعلية عليها؟ وكيف سمحت لنفسها بأن تتيح التجسس على الجمعيات والهيئات الخيرية الطبية وتلك المعنية بمساعدة الأطفال وعلى منظمات حقوق الإنسان؟ كيف سمح مسؤولو الحكومة بحدوث هذا الأمر إن كان لديهم علم به أو كان ينبغي أن يكونوا مطلعين عليه في أقل تقدير؟
.ويجب على حكومة المملكة المتحدة أن تشكل وبسرعة هيئة تحقيق مستقلة.
ملاحظة: نُشر هذا المقال بدايةً في “ذا إنترسيبت“