حملة لإلغاء تجريم التحقير والقدح والذم في القوانين اللبنانية

يزداد عدم تقبّل السلطات اللبنانية والأفراد ذوي النفوذ، بما في ذلك الشخصيات السياسية والقضائية والدينية والأمنية، للنقد ويتسلّحون بقوانين التحقير والقدح والذم الجزائية اللبنانية لمضايقة وترهيب وإسكات المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء والصحفيين وغيرهم ممن ينتقدونهم أو يحاولون فضح سوء سلوكهم أو فسادهم المزعومَيْن، علمًا أن هذه القوانين تحمل أحكامًا بالسجن تصل مدتها إلى ثلاث سنوات.

يعيق هذا التهديد للمعارضة السلمية قدرة المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والنشطاء وغيرهم على العمل بشكل مستقل والتحدث علنًا عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية الهامة. ويعد النقاش العام أمرًا بالغ الأهمية في هذا الوقت في لبنان الذي تفتك به الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، وخصوصًا في ظلّ تقاعس القضاء عن محاسبة المسؤولين عن الأزمات المتعددة وانتهاكات حقوق الإنسان.

ما هو التشهير؟ وكيف يعاقب عليه القانون اللبناني؟

التشهير هو أي تعبير، باللفظ أو الكتابة، يُشارَك مع شخص آخر أو أكثر، مما قد يؤدي إلى الإضرار بسمعة شخص آخر أو مؤسسة أخرى. اعتمدت معظم الدول شكلًا من أشكال قوانين التشهير لحماية الأفراد والمؤسسات من الهجمات غير المبررة على سمعتهم، إلا أن قوانين التشهير والتحقير في لبنان لا تتماشى مع التزاماته بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، وعادةً ما تُستخدم من قبل السلطات والأفراد ذوي النفوذ لمضايقة وترهيب ومعاقبة الأفراد الذين ينتقدونهم.

تجرّم القوانين اللبنانية، وتحديدًا قانون العقوبات وقانون المطبوعات وقانون القضاء العسكري، التشهير والتحقير بما في ذلك ضد موظفي المؤسسات العامة والمسؤولين والقضاة ورئيس الدولة والعلم والجيش والدول الأجنبية.

هناك نوعان من التشهير في القانون اللبناني: الذم والقدح. يُعرِّف قانون العقوبات الذم بأنه نسبة أمر إلى شخص أو مؤسسة مما ينال من شرفه أو كرامته. ويُعرِّف القدح بأنه كل لفظة ازدراء أو سباب أو كل تعبير أو رسم يشفان عن التحقير يعدّ قدحًا إذا لم ينطوِ على نسبة أمر ما.

يمكن محاكمة الأفراد المتهمين بالتحقير أو بالقدح والذم في المحاكم الجزائية أو محكمة المطبوعات أو المحاكم العسكرية. كما يمكن أن تؤدي الإدانات بموجب هذه القوانين إلى أحكام بالسجن تصل إلى ثلاث سنوات و/أو غرامات.

للمزيد من المعلومات حول العقوبات المنصوص عليها في مختلف قوانين التحقير والقدح والذم في لبنان، يمكنكم قراءة تحليلنا القانوني هنا.

إذًا، ما الإشكالية في قوانين التحقير والقدح والذم الجزائية في لبنان؟

أولاً، قوانين التحقير والقدح والذم في لبنان جزائية، أي أن الأفراد أو المؤسسات الذين يشعرون بأنهم تعرضوا للتحقير أو القدح والذم يمكنهم رفع دعوى لدى النيابة العامة، ومن ثم تستخدم الأجهزة الأمنية والنيابة العامة الأموال العامة للتحقيق في القضية نيابة عن الدولة، بما في ذلك استدعاء الأفراد واستجوابهم. لقد وثقت منظمة العفو الدولية مجموعة من الانتهاكات أثناء الاستجواب لدى الأجهزة الأمنية التي تسعى إلى مضايقة الأفراد وترهيبهم. يمكن للمحاكم معاقبة المدانين بالتشهير والتحقير بالسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات. في يوليو/تموز 2023، حكمت محكمة جزائية على الصحفية ديما صادق بالسجن لمدة سنة بسبب تغريدة نشرتها تنتقد فيها أعضاء أحد أبرز الأحزاب السياسية في البلد.

لا يشكل التحقير جريمة معترف بها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. علاوة على ذلك، بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن السجن ليس عقوبة مناسبة للقدح والذم، حيث يُعتبر التعويض المدني كافيًا لجبر الضرر الذي يلحق بسمعة الأفراد وتحقيق توازن أفضل بين حماية الحقوق الفردية وتعزيز الخطاب العام السليم.

تدعو حملتنا الجديدة #رأيي_مش_جريمة السلطات اللبنانية إلى إلغاء مواد في قانون العقوبات وقانون المطبوعات وقانون القضاء العسكري تجرّم التحقير واستبدال مواد التشهير بأحكام مدنية جديدة. 

آية مجذوب

ثانيًا، لا تُعتبر الحقيقة دفاعًا مقبولًا في معظم قضايا التحقير والقدح والذم بموجب القانون اللبناني. لذلك يمكن محاكمة الأفراد – وحتى الحكم عليهم بالسجن – حتى لو كان ما قالوه هو الحقيقة.

ثالثًا، يتمتع الموظفون العموميون بحماية خاصة من التحقير والقدح والذم، حيث إن عقوبات التحقير بحق الموظفين في المؤسسات العامة أشد من تلك المفروضة على التحقير بحق المواطنين العاديين، وتزداد العقوبات كلما كانت رتبة الفرد الموجه ضده التحقير أو القدح والذم أعلى. كما أن الرئيس محميّ بشكل خاص بموجب القانون اللبناني، إذ يمكن للمدعي العام أن يوجّه تهمًا  ضد الأفراد المتهمين بالتشهير والتحقير بحق الرئيس من تلقاء نفسه، حتى بدون أن يتقدم الرئيس بشكوى. ولا تُعتبر الحقيقة دفاعًا مقبولًا بتاتًا عن أي قدح وذم أو تحقير موجه لرئيس الجمهورية.

يتضح من القانون الدولي لحقوق الإنسان أن “جميع الشخصيات العامة، بمن فيها التي تمارس أعلى السلطات السياسية مثل رؤساء الدول والحكومات، تخضع بشكل مشروع للنقد والمعارضة السياسية”. في الواقع، يجب أن يتقبل موظفو المؤسسات العامة الانتقاد من المجتمع بقدر أكبر نظرًا للمصلحة العامة التي تتحقق من انتقادهم.

رابعًا، يسمح القانون اللبناني بمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية إذا كان المحتوى التحقيري المزعوم موجهًا ضد أي فرد من أفراد المؤسسة العسكرية. وقد وجدت منظمة العفو الدولية أن المحاكم العسكرية في لبنان ليست مستقلة أو حيادية، وأنها تنتهك حق الأشخاص في المحاكمة العادلة والإجراءات القانونية الواجبة.

هل الخطاب المهين أو الصادم محميّ بموجب الحق في حرية التعبير؟

نعم! لا يسمح القانون الدولي لحقوق الإنسان بفرض قيود أو حظر على الحق في حرية التعبير لمجرد أن الآخرين يعتبرونه مهينًا. شدّدت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، التي أُنشئت للإشراف على تنفيذ الدول الأطراف لـلعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، على أن نطاق الحق في حرية التعبير “يغطي التعبير عن رأي قد يعتبر مهينًا للغاية”. وأعربت على وجه التحديد عن مخاوفها بشأن القوانين التي تحظر عدم احترام السلطة والأعلام والرموز والمؤسسات، مؤكدة أن هذه القوانين لا ينبغي أن تمنع انتقاد المؤسسات، بما في ذلك الجيش. بالإضافة إلى ذلك، فإن “مجرد اعتبار أن أشكال التعبير مهينة للشخصية العامة لا يكفي لتبرير فرض عقوبات”.

تعارض منظمة العفو الدولية جميع قوانين التشهير الجزائية إضافة إلى جميع القوانين التي تحظر إهانة أو عدم احترام رؤساء الدول أو الشخصيات العامة أو الجيش أو المؤسسات العامة الأخرى أو الأعلام أو الرموز.

متى يمكن تقييد الحق في حرية التعبير؟

توفر المعايير الدولية لحقوق الإنسان إطارًا واضحًا لكيفية قيام القانون المحلي بإحداث توازن بين الحماية القصوى للحق في حرية التعبير من ناحية واحترام حقوق الآخرين والحفاظ على الأمن القومي والنظام العام من ناحية أخرى.

لا يمكن تقييد الحق في حرية التعبير إلا في ظروف محدودة معينة، وهي: احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم؛ أو حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة؛ أو عندما يشكل الخطاب تحريضًا على التمييز أو العداء أو العنف.

ومع ذلك، فإن أي قيود لتحقيق الأهداف المشروعة المذكورة أعلاه يجب أن تفي بمتطلبات الشرعية والضرورة والتناسب. كما ويقع العبء على الدولة لإثبات ضرورة وتناسب أي قيد تفرضه والسبب المشروع الذي فُرض من أجله. لا يجوز لأي قيود مفروضة على ممارسة حرية التعبير أن تعرض الحق نفسه للخطر. كما هو موضح أعلاه، فإن قوانين التحقير والقدح والذم الجزائية لا تفي بهذه المعايير.

إن قوانين التحريض المصاغة بطريقة تحترم المعايير الدولية هي واحدة من القيود الجزائية المسموح بها على حرية التعبير. ومع ذلك، يجب أن يظهر الخطاب المُدان كراهيةً لمجموعة قومية أو عرقية أو دينية معينة؛ ويجب أن يتضمن نية واضحة لتحريض الآخرين على التمييز أو العداوة أو ارتكاب العنف ضد المجموعة المعنية؛ كما يجب أن يبرهن احتمال أن يرتكب الآخرون مثل هذا العنف أو أي أذى آخر؛ بالإضافة إلى بناء رابط واضح ومباشر بين الخطاب/التعبير وهذا العنف أو غيره من الأذى.

حالات موثقة

جان قصير

تم استدعاء جان قصير، الصحفي والشريك المؤسس لمنصة “ميغافون”، وهي وسيلة إعلامية مستقلة، للاستجواب في مارس/آذار 2023 من قبل عنصرَيْن  من جهاز أمن الدولة اعترضوا سيارته في حيّه ولم يبلغوه عن أسباب استدعائه. علم قصير لاحقًا أن الاستدعاء استند إلى شكوى قدح وذم جزائية قدّمها ضده المدعي العام التمييزي اللبناني الذي تمت تسميته كأحد “الفارّين من العدالة” في قضية انفجار مرفأ بيروت في منشور على ميغافون. وكان قد اتُّهم المدعي العام نفسه رسميًّا في قضية انفجار مرفأ بيروت. رفض قصير المثول أمام جهاز أمن الدولة، قائلًا إن الجهاز غير مخوّل باستجواب الصحفيين. ودفعت التعبئة والتضامن الشعبيان مع جان المدعي العام إلى إسقاط التهم.

لارا بيطار

تم استدعاء لارا بيطار، رئيسة تحرير موقع مصدر عام، وهو موقع صحافة استقصائية، للاستجواب عبر الهاتف من قبل مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية التابع لقوى الأمن الداخلي الذي رفض شرح أسباب الاستدعاء. رفضت بيطار بدورها حضور الاستجواب حيث قالت إن الأجهزة الأمنية غير مخوّلة باستجواب الصحفيين. وعلم محاميها، الذي حضر نيابة عنها، أن الاستدعاء استند إلى شكوى تشهير جزائية تقدم بها حزب القوات اللبنانية، وهو حزب سياسي لبناني بارز، على خلفية مقال نُشر قبل ثمانية أشهر على الموقع الإلكتروني يتهم الحزب بالضلوع في جرائم بيئية مزعومة خلال الحرب الأهلية اللبنانية وبعدها (1975-1990). حتى الآن، لم يتم إبلاغ محامي بيطار عن أي تطورات في قضيتها.

جينا الشماس

حضرت جينا الشماس، وهي رئيسة جمعية مدراء مؤهلون لمكافحة الفساد في لبنان والنقيبة السابقة لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان، للاستجواب في 4 يوليو/تموز 2023 إثر شكوى قدح وذم جزائية قدّمها ضدها الوزير السابق والنائب نهاد المشنوق، على خلفية تصريحات أدلت بها في وسائل الإعلام حول أنشطة فساد مزعومة من جانب مسؤولين كبار ورجال أعمال، من بينهم المشنوق. وأثناء الاستجواب في مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في قوى الأمن الداخلي، حاول المحققون الضغط عليها للكشف عن أسماء مصادرها وتسليم الوثائق التي بحوزتها، في انتهاك لقانون حماية كاشفي الفساد الذي أقرّه لبنان في 2018. عندما رفضت الشماس الكشف عن مصادرها، أخبرها المحققون أنه لن يُفرج عنها حتى توقع تعهدًا بعدم الإدلاء بأي تصريحات تمسّ المشنوق، ولكنها رفضت ذلك. بعد ست ساعات، أُطلق سراح الشماس بدون أن توقّع على تعهد، وسط دعوات متزايدة لتعبئة الرأي العام. لا تزال الشماس تنتظر إخطارًا بالمزيد من التطورات في قضيتها.

زياد عيتاني

يخضع الممثل زياد عيتاني، الذي تمت تبرئته من تهم تجسس زائفة عام 2017، للمحاكمة في قضية قدح وذم جزائية إثر شكوى قدح وذم قدمها ضده رئيس جهاز أمن الدولة ومسؤول آخر في جهاز أمن الدولة عام 2020، بعد أن انتقد عيتاني علنًا الجهاز لتسريب فيديو استجوابه إلى وسائل الإعلام. احتُجز عيتاني لدى جهاز أمن الدولة عام 2017، واتهم الجهاز بإخفائه قسرًا وتعذيبه. وكانت منظمة العفو الدولية قد وثّقت مزاعم تعذيبه، والتي تضمنت ضربه بكابلات كهربائية، وربط جسده في وضعية منهكة باستخدام سلسلة حديدية، وتعليقه من معصميه لساعات، وركله ولكمه في وجهه، والتهديد باغتصابه. وبينما لم يتم التحقيق حتى الآن في شكاوى التعذيب التي قدمها عيتاني، تحركت السلطات بسرعة مذهلة للتحقيق معه ومقاضاته بشأن تهم القدح والذم. لا تزال محاكمة عيتاني مستمرة.

ديما صادق

في يوليو/تموز 2023، حكمت محكمة جزائية على الصحفية ديما صادق بالسجن لمدة عام وبغرامة قدرها 110 ملايين ليرة لبنانية (ما يعادل حوالي 1,200 دولار أمريكي بحسب سعر السوق) بناءً على تهم القدح والذم  والتحريض الجزائية التي رفعها ضدها رئيس التيار الوطني الحرّ، وهو أحد أبرز الأحزاب السياسية اللبنانية. وتأتي الشكوى على خلفية تغريدة نشرتها في فبراير/شباط 2020 استخدمت فيها عبارات مسيئة لوصف الحزب بعد أن زُعم أن بعض أعضائه ارتكبوا أعمال عنف. يبرز هذا الحكم، وهو تصعيد غير مسبوق ضد المعارضة السلمية، كأحد أقسى الأحكام الصادرة في لبنان ضد فرد على خلفية التعبير السلمي.


ما هو المطلوب لحماية حرية التعبير في لبنان؟

على السلطات اللبنانية أن تجعل قوانينها متماشية مع التزامات لبنان الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، بما في ذلك من خلال:

  • إلغاء مواد القانون  التي تجرّم التحقير، بما في ذلك بحق الشخصيات السياسية والدينية والأمنية والقضائية.
  • النصّ على اعتبار الحقيقة دفاعًا مقبولًا تمامًا في قضايا التشهير، بغضّ النظر عن الشخص المستهدف. وفي قضايا المصلحة العامة، يكفي أن يكون المدّعى عليه قد تصرّف بالعناية الواجبة لإثبات الحقيقة.
  • منع المؤسسات الحكومية، بما في ذلك الجيش والأجهزة الأمنية، من رفع دعاوى التشهير ضد مَن يمارس حقه في حرية التعبير.
  • استبدال المواد التي تتعلق بالتشهير، بما في ذلك القدح والذم، بأحكام مدنية جديدة لا تفرض عقوبات جزائية.
  • تعديل قوانين التحريض لحصر التجريم بالتصريحات التي ترقى إلى مستوى الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداء أو العنف. ويجب أن يحدد القانون بوضوح معنى كل من هذه المصطلحات.
  • الاعتراف الصريح بالمصلحة العامة التي تتحقق من انتقاد الشخصيات والسلطات العامة.

ريثما يتم ذلك، يتعيّن على السلطات اللبنانية، بما في ذلك النيابة والمؤسسات الأمنية، التوقف فورًا عن مضايقة وترهيب أولئك الذين يمارسون حقهم في حرية التعبير واحترام حقوقهم في الإجراءات القانونية الواجبة.

طالبوا السلطات اللبنانية بإلغاء المواد التي تجرّم التحقير وإلغاء تجريم القدح والذم في القوانين اللبنانية #رأيي_مش_جريمة