التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية للعام 2022/23 يسلط الضوء على ازدواجية المعايير في ما يخص حقوق الإنسان وفشل المجتمع الدولي في الاصطفاف حول حقوق الإنسان والقيم العالمية.
- الاستجابة القوية من الغرب للعدوان الروسي على أوكرانيا تتناقض بشكل صارخ مع التقاعس المشين عن اتخاذ اجراءات مجدية بسأن الانتهاكات الجسيمة التي يقترفها بعض حلفاء الغرب مثل إسرائيل والسعودية ومصر.
- مع حلول الذكرى الخامسة والسبعين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تلحُّ منظمة العفو الدولية على ضرورة إنشاء نظام دولي مبني على قواعد حقوق الإنسان ويشمل كل إنسان في كل مكان.
قالت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي الصادر اليوم إن المعايير المزدوجة وتقاعس المجتمع الدولي عن الاصطفاف حول حقوق الإنسان التي ينبغي احترامها والالتزام بها على نحو متسق، قد شجعت الحكومات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على تصعيد ممارساتها القمعية وانتهاكاتها لحقوق الانسان.
ويكشف تقرير منظمة العفو الدولية للعام 2022/23: حالة حقوق الإنسان في العالم، كيف أن الإجراءات التي اتخذها الغرب ردًا على الغزو الروسي الواسع النطاق لأوكرانيا يتناقض بشكل صارخ مع تقاعسه عن اتخاذ أي إجراء مجدٍ بشأن الانتهاكات الفادحة التي يقترفها بعض حلفاء الغرب في المنطقة، ومن بينهم إسرائيل والسعودية ومصر. وهذا التجاهل المتعمد للانتهاكات أدى إلى تغذية سياسات الإفلات من العقاب وزعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تعيش على إيقاع الصراعات المسلحة الطويلة الأمد، وقمع الحقوق والحريات الأساسية، والتمييز ضد النساء والفتيات، والإفلات من عقاب الاخفاء القسري والتعذيب والقتل غير المشروع وغير ذلك من الجرائم بموجب القانون الدولي.
وقالت أنياس كلامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية: “لو أن النظام القائم كان قد نجح في محاسبة روسيا على جرائمها الموثقة في الشيشان وسوريا، فلربما كان بالإمكان إنقاذ الآلاف من الأرواح آنذاك، والآن في أوكرانيا وغيرها من البلدان؛ وبدلًا من ذلك، فإن ما نراه الآن هو المزيد من المعاناة والدمار. وإذا كانت حرب روسيا العدوانية تظهر شيئًا من أجل مستقبل العالم، فهو أهمية وجود نظام دولي فعال يستند إلى قواعد يتم تطبيقها على نحو متسق؛ فيجب على جميع الدول تصعيد جهودها من أجل نظام يقوم على القانون ويعود بالفائدة على جميع البشر في كل مكان”.
ويسلط التقرير الضوء على تقاعس حكومات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن حماية حقوق الإنسان الأساسية للملايين من البشر الذين يعانون من الصعاب الاقتصادية، والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية، والصراعات الإقليمية، والكوارث الناجمة عن المناخ. وقد عمدت مختلف دول المنطقة إلى استغلال فعاليات عالمية لتجميل صورتها، ورسم صورة وردية عن التقدّم على صعيد حقوق الإنسان، ومن أبرز أمثلة ذلك استضافة مصر لمؤتمر التغير المناخي للأمم المتحدة (كوب 27)، واستضافة السعودية لفعاليات ثقافية ورياضية.
وقالت هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية: “بدلًا من تلبية مطالب شعوبها المتزايدة بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وبإتاحة الحيز السياسي الذي تعرب فيه عن مطالبها، على الإنترنت أو سواه، فإن حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا صعّدت إغلاق الفضاءات المتاحة للمعارضة، ووضعت على رأس أولوياتها الاستثمار في حملات العلاقات العامة البراقة والفعاليات الدولية التي تخلق لها واجهة زائفة من التقدم والإصلاح”.
مهما كانت الفوضى الضاربة في ديناميات القوة العالمية، فلا يمكن أن تضيع حقوق الإنسان في خضمها.
أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية
القمع الشديد للمعارضة
استمرت السلطات في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في تكميم أفواه منتقديها، وسحق الاحتجاجات، وتقييد حرية التعبير، ومن بين سبل ذلك القوانين القمعية، واستخدام القوة المميتة غير المشروعة، والاعتقالات الجماعية.
ففي إيران، كانت وفاة المواطنة الإيرانية الكردية مهسا (جينا) أميني في الحجز في 16 سبتمبر/أيلول بمثابة الشرارة التي أشعلت انتفاضة في مختلف أنحاء البلاد احتجاجًا على عقود من القمع؛ وجاءت وفاتها وسط أنباء موثوقة عن تعرضها للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة بعد ثلاثة أيام من اعتقالها بأسلوب عنيف على يد ما تسمى شرطة “الآداب” في إيران التي دأبت على إخضاع النساء والفتيات للاعتقال والاحتجاز التعسفي، والتعذيب، وغيره من ضروب المعاملة السيئة، بسبب عدم التزامهن بقوانين الحجاب في إيران التي تنطوي على التمييز وانتهاك حقوق الإنسان.
وتصدّت السلطات الإيرانية – وقد استمدت جرأتها من عقود من الإفلات من المساءلة والعقاب – للانتفاضة الشعبية غير المسبوقة من خلال إطلاق الذخيرة الحية، والكريات المعدنية، والغاز المسيل للدموع بصورة مكثّفة وغير مشروعة، ما أدى إلى قتل المئات بصورة غير مشروعة، بما في ذلك ما لا يقل عن 44 طفلًا. واعترفت السلطات باعتقال أكثر من 22,000 شخص لأسباب تتعلق بالاحتجاجات، في حين تعرض المعتقلون في إطار موجة الاعتقالات الجماعية، بما في ذلك الأطفال، للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة، والملاحقات القضائية الجائرة، والاختفاء القسري، والمحاكمات غير العادلة. وأُعدم شابان بصورة تعسفية لأسباب تتصل بالاحتجاجات. كما قامت السلطات بإغلاق أو تعطيل شبكات الإنترنت وشبكات الهواتف المحمولة، وبحجب منصتي واتساب وإنستغرام أو حجب جزء من محتواهما.
وفي تونس، أوغل الرئيس قيس سعيِّد في اعتدائه على الضمانات الحقوقية، وعزز استيلاءه على زمام السلطة عام 2021 من خلال التشريعات القمعية، وكذلك من خلال دستور جديد ركز السلطة في يد السلطة التنفيذية. واستهدفت السلطات التونسية منتقدين بارزين، ومن تحسبهم من أعداء الرئيس، بالملاحقات القضائية، والاحتجازات التعسفية، وأوامر المنع من السفر.
وفي مختلف أنحاء المنطقة، شددت الحكومات القيود التشريعية التي تكبل حرية التعبير، واتخذت إجراءات لتكميم أفواه المعارضين؛ فقد أصدرت السعودية أحكامًا بالسجن لمدد تتراوح بين 10 و45 سنة على ما لا يقل عن 15 شخصًا عام 2020 لا لشيء سوى أنشطتهم السلمية على الإنترنت؛ واستخدمت السلطات في ذلك أحكامًا قانونية مبهمة وفضفاضة بشأن الإرهاب وجرائم المعلوماتية. وفي اليمن، أغلقت سلطات الأمر الواقع الحوثية ما لا يقل عن ست محطات إذاعية بالعاصمة، واستمرت في سجن ما لا يقل عن ثمانية صحفيين، من بينهم أربعة محكوم عليهم بالإعدام. وفي المغرب، صدر حكم بالسجن ثلاث سنوات على المدافعة عن حقوق الإنسان سعيدة العلمي بسبب منشوراتها على وسائل التواصل الاجتماعي التي تندد بقمع الصحفيين والنشطاء.
وفي سوريا، نص قانون اعتُمد حديثًا لمكافحة الجريمة المعلوماتية على فرض عقوبات بالسجن لمدد طويلة على من ينتقد السلطات أو الدستور على الإنترنت. وفي الإمارات العربية المتحدة، صدر قانون جديد يجرم “كل من سخر أو أهان أو أضر بسمعة أو هيبة أو مكانة الدولة” أو أي من “قادتها المؤسسين”.
إن حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا صعّدت إغلاق الفضاءات المتاحة للمعارضة، ووضعت على رأس أولوياتها الاستثمار في حملات العلاقات العامة البراقة والفعاليات الدولية التي تخلق لها واجهة زائفة من التقدم والإصلاح.
هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية
النساء يتحملن القسط الأكبر من عواقب تقاعس الدول عن حماية واحترام الحقوق
حضرت النساء والفتيات في طليعة الاحتجاجات التي اندلعت في إيران، وتحدّين عقودًا من التمييز والعنف القائمين على النوع الاجتماعي، وقوانين الحجاب الإلزامي المسيئة. وترددت أصداء الهتافات بشعار “المرأة – الحياة – الحرية”، في أرجاء إيران، فكانت مبعث إلهام للملايين في المنطقة وفي مختلف أنحاء العالم.
ورغم ذلك، فقد ظل التباين والتضارب في النهج المتبع إزاء حقوق الإنسان يخلف أثرًا صارخًا على النساء والفتيات في المنطقة؛ وظلت النساء في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يعانين من التمييز المؤسسي، ومن استشراء العنف القائم على النوع الاجتماعي، مثل “القتل دفاعًا عن الشرف” وجرائم قتل النساء التي يفلت مرتكبوها من العقاب عادة. وبدلًا من التصدي للعنف القائم على النوع الاجتماعي، لاحقت السلطات في مصر والعراق واليمن قضائيًا الضحايا و/أو المدافعات عن حقوق المرأة، أو أخضعتهن لأصناف أخرى من المضايقات.
وحظرت السلطات الحوثية القائمة بحكم الأمر الواقع على النساء السفر بدون محرم أو تصريح مكتوب من السلطات. وكان لهذه الممارسات التمييزية، غير المنصوص عليها في القانون اليمني، آثار بعيدة المدى على النساء والفتيات، إذ عرقلت حصولهن على الرعاية الصحية وتمتعهن بالحقوق الإنجابية، حيث وجدت النساء اليمنيات العاملات في المجال الإنساني صعوبة متزايدة في القيام بعملهن الميداني في المناطق الخاضعة لسلطة الحوثيين.
“إن النساء والفتيات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يواجهن جهودًا لا هوادة فيها من أجل فرض الهيمنة عليهن وإخضاعهن، ورغم ذلك فإنهن يواصلن الكفاح بشجاعة دفاعًا عن حقوقهن، مثلما رأينا في إيران.
هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية
وأحرزت بعض الدول تقدمًا متواضعًا في معالجة انعدام المساواة بين فئات النوع الاجتماعي؛ فقد صادق المغرب على البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وأعلن الأردن المساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون، واتخذت الكويت تدابير تهدف إلى زيادة نسبة تمثيل المرأة في الوظائف العامة والمناصب القيادية. أما عمان فقد أنشأت خطًا هاتفيًا ساخنًا مكرسًا لقضايا العنف الأسري، ولكنها لم توفّر ملاجئ لإيواء الضحايا ولم تسن أي قوانين تعرَّف العنف الأسري.
وفي مارس/آذار 2022، أصدرت السعودية أول نظام للأحوال الشخصية في البلاد، وصفته السلطات بأنه انتصار كبير لحقوق المرأة؛ ولكنه في الواقع يديم نظام ولاية الرجل، ولا يحمي المرأة من العنف الأسري، ويقنن التمييز القائم على النوع الاجتماعي في الزواج والطلاق والحضانة والميراث.
وقالت هبة مرايف: “إن النساء والفتيات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يواجهن جهودًا لا هوادة فيها من أجل فرض الهيمنة عليهن وإخضاعهن، ورغم ذلك فإنهن يواصلن الكفاح بشجاعة دفاعًا عن حقوقهن، مثلما رأينا في إيران. لقد خاطرت النساء بأرواحهن للتصدي للعنف والتمييز المترسخين في المجتمع، والمطالبة بالمساواة. وقد آن الأوان لأن تصغي حكومات المنطقة لهذه المطالب”.
قصور الاستجابات الدولية للأزمات الحقوقية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
لقد استفادت حكومات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من عدم اهتمام الكثير من الحكومات الغربية بتناول حقوق الإنسان في إطار سياستها الخارجية إزاء المنطقة.
فقد كان عام 2022 بالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية المحتلة، واحدًا من أكثر الأعوام حصدًا لأرواحهم منذ أن بدأت الأمم المتحدة في تسجيل عدد القتلى والجرحى بصورة ممنهجة عام 2006، حيث قتلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 151 فلسطينيًا من بينهم العشرات من الأطفال. واستمرت السلطات الإسرائيلية في طرد الفلسطينيين من بيوتهم، وأطلقت الحكومة خططًا لتوسيع المستوطنات غير المشروعة في مختلف أنحاء الضفة الغربية المحتلة على نحو مفرط. ولكن بدلًا من مطالبة إسرائيل بوضع حد لنظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الذي تنتهجه، جاءت استجابة الكثير من الحكومات الغربية إما خافتة أو قاصرة، وآثرت أن تغض الطرف عن الهجمات والغارات التي يكابدها الفلسطينيون.
النهج الانتقائي الذي يتّبعه الغرب في التنديد بانتهاكات حقوق الإنسان قد عزز استخفاف إسرائيل المستمرّ بالحقوق الإنسانية للفلسطينيين، في الوقت الذي مكَّن فيه مصر والسعودية من تجنب الانتقاد المشروع لسجليهما في مجال حقوق الإنسان.
هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية
كما تقاعس المجتمع الدولي عن محاسبة السعودية على سجلها المزري في مجال حقوق الإنسان؛ وبالرغم من الوعد الذي قطعه الرئيس الأمريكي جو بايدن على نفسه خلال حملته الانتخابية بمحاسبة المسؤولين عن مقتل الصحفي جمال خاشقجي عام 2018، الذي كان من المقيمين في الولايات المتحدة، وبالرغم من صدور تقرير للاستخبارات الأمريكية يفيد بأن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان هو الذي كان مسؤولًا عن الموافقة على تنفيذ جريمة قتل الصحفي، فقد قام بايدن بزيارة السعودية لمقابلة ولي العهد في يوليو/تموز 2022. وفي خيانة أخرى لحقوق الإنسان، قامت إدارة بايدن في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بتقديم طلب قانوني تدعو فيه محكمة أمريكية منح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حصانة من دعوى قضائية رفعتها عليه خطيبة خاشقجي.
وكانت استجابة المجتمع الدولي لأزمة حقوق الإنسان في مصر في غاية القصور؛ فقد اعتقلت السلطات المئات من الأشخاص بصورة تعسفية خلال الفترة السابقة لانعقاد مؤتمر المناخ كوب 27، لمجرد الاشتباه في دعوتهم لخروج مظاهرات سلمية إبان هذا الحدث البارز في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. وفي أثناء المؤتمر، أثار العديد من الزعماء قضية مصير الناشط البارز علاء عبد الفتاح علنًا ومرارًا، وكان قد رفض الماء في 6 نوفمبر/تشرين الثاني بعدما ظل مضربًا عن الطعام منذ أبريل/نيسان 2022، ولكن ذلك لم يسفر عن أي إجراءات فعلية مجدية لتأمين إطلاق سراحه أو إطلاق سراح آلاف آخرين من المحتجزين بصورة تعسفية في ظروف مروعة وعقابية.
وقالت هبة مرايف: “إن إثارة القضايا الباعثة على القلق بشأن حقوق الإنسان بصورة غير متسقة تقوض الرسالة، لأن عدم الاتساق يدل على نقص الالتزام؛ فالنهج الانتقائي الذي يتّبعه الغرب في التنديد بانتهاكات حقوق الإنسان قد عزز استخفاف إسرائيل المستمرّ بالحقوق الإنسانية للفلسطينيين، في الوقت الذي مكَّن فيه مصر والسعودية من تجنب الانتقاد المشروع لسجليهما في مجال حقوق الإنسان. لا يمكن تطبيق قانون حقوق الإنسان على أساس كل حالة على حدى”.
ازدواجية مشينة في المعايير وعنصرية
تجلت سياسة الكيل بمكيالين التي ينتهجها الغرب على نحو صارخ أيضًا عندما عمدت الكثير من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية إلى إبقاء حدودها مغلقة في وجه الفارين من ويلات الحروب والقمع في سوريا وليبيا، وغيرهما من البلدان، في الوقت الذي فتحت فيه أبوابها أمام الأوكرانيين النازحين فرارًا من العدوان الروسي.
وفي غضون أيام معدودة من الغزو الروسي لأوكرانيا، قام الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى بتفعيل “الأمر التوجيهي المتعلق بالحماية المؤقتة” (TPD)، ما قدّم الحماية الفورية للأوكرانيين المشردين وغيرهم من الفارين من العدوان الروسي. بذلك، أظهر الاتحاد الأوروبي أنه أكثر من قادر على استقبال أعداد كبيرة من الأشخاص الذين يلتمسون ملاذًا آمنًا، وتوفير السبل أمامهم لسرعة الحصول على السكن والعمل والتعليم.
غير أن الأشخاص الذين يصلون إلى حدود أوروبا طلبًا للحماية، ولا سيما أولئك المصنفون ضمن فئات عرقية معينة ممن فروا من سوريا وأفغانستان والبلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، ظلوا يواجهون العنصرية، ويخضعون للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة، والصد العنيف على الحدود. بل في كثير من الأحيان، لم تلق حاجتهم للحماية ولا ظروفهم الفردية حتى أي اعتبار أو فحص. ففي يونيو/حزيران الماضي، لقي 37 من مواطني البلدان الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى حتفهم، ولا يزال 77 آخرون في عداد المفقودين، في أعقاب الأعمال المميتة التي ارتكبها مسؤولو الأمن الإسبان والمغاربة على حدود جيب مليلية التابع لإسبانيا.
وقال المواطن التشادي زكرياس، البالغ من العمر 22 عامًا، لمنظمة العفو الدولية: “كان عناصر قوات الأمن المغربية والإسبانية يلقون علينا كل شيء، قنابل الغاز، والحجارة، والرصاص المطاطي، والكريات المطاطية … ولم نستطع أن نرى شيئًا، وكان من الصعب علينا أن نتنفس”.
بينما استُقبل اللاجئون الأوكرانيون بحفاوة بالغة في أوروبا وفي بلدان أخرى، نجد الأشخاص الذين خرجوا من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا طلبًا للملاذ الآمن يخضعون للاحتجاز التعسفي، ويقابَلون بالإعادة القسرية والطرد الجماعي.
هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية
وأعيد الآلاف من الأشخاص بإجراءات موجزة من بلغاريا واليونان إلى تركيا؛ ومن تركيا إلى إيران وسوريا؛ ومن قبرص إلى لبنان؛ ومن كرواتيا إلى البوسنة والهرسك؛ ومن المجر إلى صربيا؛ ومن لاتفيا وليتوانيا وبولندا إلى بيلاروس. أما من تمكنوا من بلوغ أراضي الاتحاد الأوروبي فقد احتُجزوا تعسفًا، وظل بعضهم محتجزين فترات طويلة، أو تمّت إعادتهم بصورة غير مشروعة، وكثيرًا ما اقترن ذلك باستخدام أساليب عنيفة. وبعد عبورهم الحدود إلى ليتوانيا ولاتفيا وبولندا، أخضعوا مرة أخرى للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة.
أما الأشخاص الذين حاولوا الوصول إلى الشواطئ الأوروبية على متن القوارب فكثيرًا ما اعترض سبيلهم خفر السواحل الليبي المموّل من جانب الاتحاد الأوروبي، ليعيدهم إلى ليبيا حيث يخضعون بصورة ممنهجة للاحتجاز التعسفي الطويل الأمد في ظروف مروعة، ويتعرّضون للتعذيب الذي يشمل الاغتصاب، والقتل التعسفي، والاخفاء القسري، والعمل القسري، والاستغلال.
وقالت هبة مرايف: “لقد أظهرت الدول الأوروبية أنها تعي ما ينبغي عليها أن تفعله من أجل من يسعون للحماية الدولية، وأنها – وهو الأمر المهم للغاية – قادرة على ذلك. وبينما استُقبل اللاجئون الأوكرانيون بحفاوة بالغة في أوروبا وفي بلدان أخرى، نجد الأشخاص الذين خرجوا من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا طلبًا للملاذ الآمن يخضعون للاحتجاز التعسفي، ويقابَلون بالإعادة القسرية والطرد الجماعي. وقد قدم الاتحاد الأوروبي التمويل لخفر السواحل الليبي مدركًا أنه يعترض قوارب اللاجئين والمهاجرين، ويحتجزهم لأجل غير مسمى في ظروف مروعة”.
إضعاف المؤسسات الدولية
كما أدت ازدواجية المعايير والتناقضات إلى تقويض ثقة الأشخاص في المنطقة في المؤسسات الدولية والآليات الدولية لحقوق الإنسان، في الوقت الذي تكتسي فيه هذه المؤسسات والآليات أهمية حاسمة أكبر من أي وقت مضى نظرًا لغياب أي سبل محلية لتحقيق المساءلة.
وفي سوريا، بالرغم من الأدلة الموثوقة على استمرار الحكومة السورية وجماعات المعارضة المسلحة في ارتكاب الفظائع، بما في ذلك الهجمات غير المشروعة على المدنيين، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب، فشلت الآليات الدولية في محاسبة المسؤولين عن ذلك. ولم تستخدم روسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لحماية الحكومة السورية من التدقيق في سجلها فحسب، بل أيضًا لفرض قيود شديدة على المساعدات الإنسانية التي يمكن أن تقدمها الأمم المتحدة لأكثر من أربعة ملايين شخص يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال سوريا. غير أن بعض الدول، مثل ألمانيا وفرنسا، حققت بشأن الأشخاص المشتبه في ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، وملاحقتهم قضائيًا في المحاكم الوطنية لتلك الدول عملًا بمبدأ الولاية القضائية العالمية.
وفي لبنان، تقاعس مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مرة أخرى عن الاستجابة لدعوات عائلات الضحايا والناجين ومنظمات المجتمع المدني المطالبة بإجراء تحقيق دولي بشأن الانفجار المميت الذي وقع في مرفأ بيروت؛ ولكن لاح بصيص من الأمل عندما وقَّع ما لا يقل عن 38 دولة على بيان مشترك في الدورة الثانية والخمسين لمجلس حقوق الإنسان في 7 مارس/آذار، يدعو السلطات اللبنانية لضمان إجراء تحقيق سريع ومستقل وذي مصداقية بشأن الانفجار.
من الضروري تعزيز المؤسسات والأنظمة الدولية التي أنشئت من أجل حماية حقوقنا بدلًا من تقويضها.
هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية
وفي نوفمبر/تشرين الثاني، أنشأ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بعثة لتقصي الحقائق كي تتولى التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان المتعلقة بالاحتجاجات التي اندلعت في إيران في 16 سبتمبر/أيلول، في خطوة جديرة بالترحيب وإن جاءت متأخرة للغاية. وقد ظلت منظمة العفو الدولية منذ سنوات تسعى لإنشاء آلية دولية للتحقيق والمساءلة بشأن إيران، ولطالما ساقت الحجج على أن أزمة الإفلات الممنهج من العقاب في إيران تؤجج الجرائم المنصوص عليها في القانون الدولي.
وقالت هبة مرايف: “من سوريا إلى لبنان، ومن إسرائيل إلى اليمن، دفع عامة الناس ثمن الضعف في عمل المؤسسات والأنظمة الدولية. وتدعو منظمة العفو الدولية إلى التمويل الكامل لآليات حقوق الإنسان بالأمم المتحدة حتى يتسنى تحقيق المساءلة وإجراء التحقيقات اللازمة، وتدعو الدول إلى التعاون مع آليات التحقيق الدولية، وألا تسعى لتقويضها. من الضروري تعزيز المؤسسات والأنظمة الدولية التي أنشئت من أجل حماية حقوقنا بدلًا من تقويضها.”
الاستجابة للغزو الروسي لأوكرانيا تفضح نظامًا دوليًا عاجزًا عن التصدي للأزمات العالمية
- التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية عن عام 2022 يسلط الضوء على ازدواجية المعايير في مختلف أنحاء العالم بشأن حقوق الإنسان وإخفاق المجتمع الدولي في الاصطفاف حول قيم حقوق الإنسان والقيم العالمية الواجب احترامها والالتزام بها على نحو متسق.
- الاستجابة القوية من الغرب للعدوان الروسي على أوكرانيا تتناقض تناقضًا حادًا مع تقاعسه المشين عن التصدي بصورة مجدية للانتهاكات الفادحة التي يقترفها بعض حلفاء الغرب مثل إسرائيل والسعودية ومصر.
- حقوق المرأة وحريتها في التظاهر مهددة بسبب تقاعس الحكومات عن حماية واحترام حقوق الإنسان في أوطانها.
- مع حلول الذكرى الخامسة والسبعين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تلحُّ منظمة العفو الدولية بإصرار على ضرورة إنشاء نظام دولي مبني على قواعد ويقوم على حقوق الإنسان ويشمل كل إنسان في كل مكان.
قالت منظمة العفو الدولية اليوم إن الغزو الروسي الواسع النطاق لأوكرانيا عام 2022 قد أطلق العنان للكثير من جرائم الحرب، وفجَّر أزمة عالمية للطاقة والغذاء، وأفضى لتقويض وتعطيل نظام فاتر متعدد الأطراف فزاده ضعفًا على ضعف؛ كما أنه كشف للعيان نفاق الدول الغربية إذ هرعت إلى الرد بقوة على عدوان الكرملين، في الوقت الذي غضت فيه الطرف أو تواطأت في انتهاكات فادحة لحقوق الإنسان ارتُكبت في أنحاء أخرى من العالم؛ جاء ذلك في التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية الذي تقيِّم فيه حقوق الإنسان في شتى أنحاء العالم.
وفي تقرير منظمة العفو الدولية للعام 2022/23: حالة حقوق الإنسان في العالم، كشفت المنظمة كيف أن ازدواجية المعايير والتقصير في التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان التي تجري في جميع أنحاء العالم قد أديا إلى تفاقم الإفلات من العقاب وزعزعة الاستقرار، بما في ذلك الصمت الذي يصم الآذان عن سجل السعودية في مجال حقوق الإنسان، والتقاعس عن اتخاذ أي إجراء بشأن الانتهاكات في مصر، والامتناع عن التصدي لنظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين.
كما يسلط التقرير الضوء على لجوء الصين لاستخدام أساليب الذراع القوية لكبح أي إجراء دولي بشأن ما ارتكبته من جرائم ضد الإنسانية، فضلًا عن تقاعس المؤسسات العالمية والإقليمية – المكبلة بالمصالح الذاتية لأعضائها – عن التصدي الفعال للصراعات التي حصدت أرواح الآلاف من الناس في مختلف بلدان العالم، ومن بينها إثيوبيا وميانمار واليمن.
وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنياس كالامار: “إن الغزو الروسي لأوكرانيا مثال مروع لما يمكن أن يحدث عندما تظن الدول أن بمقدرها أن تضرب عرض الحائط بالقانون الدولي، وتنتهك حقوق الإنسان دون أي عواقب”.
وأضافت أنياس كالامار قائلة: “لقد خرج الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى الوجود قبل 75 عامًا، من رماد الحرب العالمية الثانية، وفي صميمه اعتراف عالمي بأن الناس كافة لهم حقوق وحريات أساسية. ومهما كانت الفوضى الضاربة في ديناميات القوة العالمية، فلا يمكن أن تضيع حقوق الإنسان في خضمها؛ بل لا بد أن تكون بمثابة البوصلة التي يهتدي بها العالم وهو يبحر في بيئة تزداد تقلبًا وخطورة؛ ولا يجوز لنا أن ننتظر حتى يحترق العالم مرة أخرى”.
ازدواجية مشينة في المعايير تمهد السبيل لمزيد من الانتهاكات
فجَّر الغزو الروسي الواسع النطاق لأوكرانيا واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية والحقوقية التي شهدتها أوروبا في تاريخها الحديث؛ إذ لم يسفر الصراع فحسب عن موجة من النزوح الجماعي، وجرائم الحرب، وانعدام الأمن على المستوى العالمي في مجال الطاقة والغذاء، بل أثار في الأفق أيضًا شبح الحرب النووية المروعة.
وجاء رد فعل الغرب سريعًا، متمثلًا فيما فرضه من عقوبات اقتصادية على موسكو، وما قدمه من مساعدات عسكرية إلى كييف، وقيام المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق بشأن جرائم الحرب في أوكرانيا، وتصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قرار يندد بالغزو الروسي باعتباره عملًا عدوانيًا. غير أن هذا النهج القوي والجدير بالترحيب يتباين تباينًا صارخًا مع الاستجابات السابقة للانتهاكات الجسيمة التي سبق أن ارتكبتها روسيا وغيرها، ومع الاستجابات الحالية المزرية لصراعات مثل تلك الدائرة في إثيوبيا وميانمار.
إذا كانت حرب روسيا العدوانية تظهر شيئًا من أجل مستقبل العالم، فهو أهمية وجود نظام دولي فعال يستند إلى قواعد يتم تطبيقها على نحو متسق.
أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية
وتقول أنياس كلامار “لو أن النظام القائم كان قد نجح في محاسبة روسيا على جرائمها الموثقة في الشيشان وسوريا، فلربما كان بالإمكان إنقاذ الآلاف من الأرواح آنذاك، والآن في أوكرانيا وغيرها من البلدان؛ وبدلًا من ذلك، نرى المزيد من المعاناة والدمار”.
“وإذا كانت حرب روسيا العدوانية تظهر شيئًا من أجل مستقبل العالم، فهو أهمية وجود نظام دولي فعال يستند إلى قواعد يتم تطبيقها على نحو متسق؛ فيجب على جميع الدول تصعيد جهودها من أجل نظام مجدد يقوم على القواعد يعود بالفائدة على جميع البشر في كل مكان”.
وبالنسبة للفلسطينيين، في الضفة الغربية المحتلة، كان عام 2022 واحدًا من أكثر الأعوام حصدًا للأرواح منذ أن بدأت الأمم المتحدة في تسجيل عدد القتلى والجرحى بصورة منهجية عام 2006، حيث قتلت القوات الإسرائيلية 151 شخصًا على الأقل من بينهم العشرات من الأطفال. واستمرت السلطات الإسرائيلية في طرد الفلسطينيين من بيوتهم، وأطلقت السلطات خططًا لتوسيع المستوطنات غير القانونية في مختلف أنحاء الضفة الغربية المحتلة على نحو مفرط. وبدلًا من مطالبة إسرائيل بوضع حد لنظام الفصل العنصري الذي تنتهجه، آثرت الكثير من الحكومات الغربية مهاجمة من ينددون به.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية من بين الدول التي رفعت صوتها منددةً بالانتهاكات الروسية في أوكرانيا، واستقبلت عشرات الآلاف من المواطنين الأوكرانيين الفارين من الحرب، ولكنها، وفقًا لسياسات وممارسات ترجع جذورها للعنصرية ضد السود، طردت أكثر من 25,000 من مواطني هايتي خلال الفترة بين سبتمبر/أيلول 2021 ومايو/أيار 2022، وأخضعت كثيرين منهم للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة.
أما الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فقد فتحت حدودها أمام الأوكرانيين الفارين من العدوان الروسي، وأظهرت أنها، باعتبارها واحدة من أغنى التكتلات في العالم، أكثر من قادرة على استقبال أعداد كبيرة من البشر الذين يبحثون عن ملاذ آمن، وإتاحة السبل أمامهم لتلقي الرعاية الصحية والتعليم والسكن؛ ولكن الكثير من هذه الدول أوصدت أبوابها أمام الفارين من ويلات الحرب والقمع في سوريا وأفغانستان وليبيا.
ومضت أنياس كلامار قائلة: “إن الاستجابات للغزو الروسي لأوكرانيا أمدتنا ببعض الأدلة على ما يمكن القيام به إذا ما توفرت الإرادة السياسية؛ لقد رأينا التنديد العالمي، والتحقيقات في الجرائم، وفتح الحدود أمام اللاجئين؛ ويجب أن تكون مثل هذه الاستجابة نموذجًا يبين لنا كيف نتصدى لجميع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”.
إن المعايير المزدوجة للغرب هي التي جرَّأت دولًا مثل الصين، ومكَّنت مصر والسعودية من تجنب أي انتقاد لسجليهما في مجال حقوق الإنسان، وتجاهله، وصرف الأنظار عنه.
وبالرغم مما ارتكبته بكين من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بحق الأويغور، وغيرهم من الأقليات المسلمة، وهي انتهاكات تبلغ حد الجرائم ضد الإنسانية، فقد أفلتت من التنديد الدولي من جانب الجمعية العامة، ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة.
نحتاج إلى أن يقل النفاق، ويتضاءل الاستهتار بحقوق الإنسان، ولأن تتنامى الأفعال المتسقة والطموحة والقائمة على المبادئ، التي تقوم بها كل دول العالم من أجل تعزيز جميع الحقوق وحمايتها.
أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية
وقد أنشأ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مقررًا خاصًا معنيًا بحالة حقوق الإنسان في روسيا، وآلية للتحقيق بشأن إيران في أعقاب ما شهدته من مظاهرات دامية. ولكن المجلس صوت لصالح قرار يقضي بعدم إجراء مزيد من التحقيق أو حتى مناقشة النتائج التي خلصت إليها الأمم المتحدة نفسها بشأن الجرائم المحتملة ضد الإنسانية في إقليم شينجيانغ بالصين، وتوقفت عن النظر في قرار بشأن الفلبين.
وأردفت أنياس كلامار قائلة: “لقد طبقت الدول قانون حقوق الإنسان على أساس كل حالة على حدة، فكشفت بصورة مذهلة نفاقًا سافرًا وازدواجية في المعايير. لا يجوز أن تنتقد الدول انتهاكات حقوق الإنسان في دقيقة، ثم في الدقيقة التالية تغض الطرف عن انتهاكات مشابهة في بلدان أخرى لا لشيء سوى الحفاظ على مصالحها؛ هذا المسلك ينافي العقل والضمير، ويمزق نسيج حقوق الإنسان العالمية برمته”.
“إننا نهيب أيضًا بالدول التي لا تزال تلوذ بالصمت أن ترفع صوتها، وتتخذ موقفًا ضد انتهاكات حقوق الإنسان أينما كانت. نحتاج إلى أن يقل النفاق، ويتضاءل الاستهتار بحقوق الإنسان، ولأن تتنامى الأفعال المتسقة والطموحة والقائمة على المبادئ، التي تقوم بها كل دول العالم من أجل تعزيز جميع الحقوق وحمايتها”.
القمع الشديد للمعارضة في مختلف أنحاء العالم
شهد عام 2022 إحالة معارضين روس للقضاء، وإغلاق بعض المؤسسات الإعلامية لمجرد أنها أتت على ذكر الحرب في أوكرانيا. وزُجَّ بصحفيين في السجون في أفغانستان، وإثيوبيا، وميانمار، وروسيا، وبيلاروس، وفي العشرات من البلدان الأخرى التي استعرت فيها صراعات في مختلف أنحاء العالم.
وفي أستراليا وإندونيسيا والمملكة المتحدة والهند، أصدرت السلطات تشريعات جديدة تفرض قيودًا على التظاهر، في حين استخدمت سري لنكا سلطات الطوارئ لتقييد المظاهرات الحاشدة التي قامت احتجاجًا على تفاقم الأزمة الاقتصادية. وتمنح قوانين المملكة المتحدة أفراد الشرطة سلطات واسعة النطاق، من بينها القدرة على منع “المظاهرات الصاخبة”، مما يقوض حرية التعبير وحرية التجمع السلمي.
واستخدمت التكنولوجيا كسلاح ضد الكثيرين، لتكميم الأفواه، أو منع التجمعات العامة، أو لتقديم معلومات مغلوطة.
وتصدت السلطات الإيرانية للانتفاضة غير المسبوقة التي قامت احتجاجًا على عقود من القمع باستخدام القوة غير المشروعة، بما في ذلك الذخيرة الحية، والكريات المعدنية، والغاز المسيل للدموع، والضرب. وقُتل المئات من الأشخاص، وكان من بينهم العشرات من الأطفال. وفي ديسمبر/كانون الأول، استخدمت قوات الأمن البيروفية القوة غير المشروعة، ولا سيما ضد السكان الأصليين والمجتمع الريفي، لقمع المظاهرات أثناء الأزمة السياسية التي نشبت في أعقاب الإطاحة بالرئيس السابق كاستيو. وواجه الصحفيون والمدافعون عن حقوق الإنسان والمعارضون السياسيون هم الآخرون القمع في بلدان مثل زيمبابوي وموزمبيق.
وتصديًا للأخطار المتزايدة التي تهدد الحق في التظاهر، أطلقت منظمة العفو الدولية حملة عالمية في عام 2022 لمواجهة الجهود المكثفة التي تبذلها الدول من أجل تقويض الحق الأساسي في حرية التجمع السلمي. وفي إطار هذه الحملة، دعت المنظمة إلى اعتماد معاهدة تجارة خالية من التعذيب، تحظر إنتاج المعدات المستخدمة في إنفاذ القانون التي تنطوي بطبيعتها على انتهاك حقوق الإنسان، والاتجار فيها، وتفرض ضوابط على الاتجار في معدات إنفاذ القانون التي كثيرًا ما تستخدم في التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة السيئة.
النساء يكابدن القسط الأكبر من عواقب تقاعس الدول عن حماية واحترام الحقوق
كان لقمع المعارضة وعدم الاتساق في مناهج وأساليب التعامل مع قضايا حقوق الإنسان آثار بالغة أيضًا على حقوق المرأة.
في الولايات المتحدة الأمريكية، نقضت المحكمة العليا ضمانة دستورية قائمة منذ أمد طويل تكفل الحق في الإجهاض، مهددة بذلك غيره من حقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في الحياة، والصحة، والخصوصية، والأمن، وعدم التمييز المجحف للملايين من النساء والفتيات والأشخاص الذين يمكن أن يصبحوا حوامل.
وبحلول نهاية عام 2022، كانت العديد من الولايات الأمريكية قد أصدرت قوانين لحظر الإجهاض أو تقليص إمكانية الحصول على الإجهاض، في حين تعرض بعض النشطاء في بولندا للملاحقة القضائية بسبب مساعدة النساء في الحصول على حبوب الإجهاض.
إن اشتهاء الدول للتحكم في أجساد النساء والفتيات، وفي نشاطهن الجنسي وحياتهن، يخلف إرثًا مروعًا من العنف، والقمع، وتعطيل طاقاتهن.
أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية
واستمرت النساء من السكان الأصليين في التعرض للاغتصاب، وغيره من أعمال العنف الجنسي، في الولايات المتحدة الأمريكية على مستويات مرتفعة على نحو غير متناسب مقارنة بغيرهن من الفئات. وفي باكستان، وردت بلاغات عن جرائم قتل بارزة متعدّدة راح ضحيتها النساء على أيدي أقاربهن، ولكن البرلمان تقاعس عن سن تشريع بشأن العنف الأسري ظل معروضاً عليه منذ عام 2021. وفي الهند، ارتُكبت أعمال عنف ضد نساء طائفتي داليت وأديفاسي، ضمن جرائم كراهية أخرى قائمة على أساس الطبقة، ولم ينل مرتكبو هذه الجرائم أي عقاب.
وشهدت أفغانستان تدهورًا بالغًا بوجه خاص لحقوق النساء والفتيات في الاستقلالية الشخصية، والتعليم، والعمل، وحرية ارتياد الأماكن العامة؛ وذلك من خلال الفتاوى المتعددة التي أصدرتها حركة طالبان. وفي إيران، اعتقلت “شرطة الآداب” مهسا (جينا) أميني بصورة عنيفة لأنها أظهرت خصلات من شعرها تحت حجابها؛ ولقت حتفها في الحجز بعد ذلك بأيام، وسط بلاغات موثوقة عن التعذيب، مما أشعل فتيل المظاهرات في طول البلاد وعرضها، وأصيبت فيها الكثير من النساء والفتيات، أو اعتُقلن، أو قتلن.
وقالت أنياس كالامار: “إن اشتهاء الدول للتحكم في أجساد النساء والفتيات، وفي نشاطهن الجنسي وحياتهن، يخلف إرثًا مروعًا من العنف، والقمع، وتعطيل طاقاتهن”.
قصور فادح في التحرك العالمي لمجابهة الأخطار التي تهدد البشرية
ظل العالم، خلال عام 2022، يعاني من عواقب وباء كوفيد-19؛ وكان تغير المناخ، والصراع، والصدمات الاقتصادية، بما فيها تلك الناشئة جزئيًا عن غزو روسيا لأوكرانيا، من بين العوامل التي زادت من وطأة المخاطر التي تتربص بحقوق الإنسان.
ونتيجة للأزمات الاقتصادية، بات 97% من سكان أفغانستان يرزحون تحت وطأة الفقر؛ أما في هايتي، فقد أصبح أكثر من 40% من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد بسبب الأزمة السياسية والإنسانية التي فاقمتها أعمال العنف التي ترتكبها العصابات على نطاق واسع.
ما من سبيل أمامنا للنجاة من هذه الأزمات ما لم تكن مؤسساتنا الدولية مهيأة لتحقيق الغرض المنشود.
أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية
وأدت الظروف الجوية المتطرفة، التي زاد الاحترار العالمي السريع من وطأتها، إلى تفشي الجوع والمرض في العديد من بلدان جنوب آسيا، والبلدان الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى، بما فيها باكستان ونيجيريا، حيث خلفت الفيضانات آثارًا كارثية على حياة الناس وسبل عيشهم، وأفضت إلى تفشي الأمراض المنقولة بالماء التي حصدت أرواح المئات من البشر.
وفي ظل هذه الظروف، تقاعست الدول عن السعي لتحقيق مصالح البشرية على أكمل وجه، ومعالجة الاعتماد على الوقود الأحفوري، وهو القوة الدافعة الرئيسية التي تجرنا إلى أكبر خطر يتهدد الحياة كما نعرفها. وكان هذا التقاعس الجماعي مثالًا ناصعًا آخر على ضعف النظم الحالية المتعددة الأطراف.
وقالت أنياس كلامار: “إن العالم محاصر بأزمات متلاطمة، من بينها الصراعات الواسعة النطاق، والأوضاع الاقتصادية القاسية حيث أصبحت كواهل دول كثيرة مثقلة بديون باهظة لا تقدر على حملها، والتجاوزات الضريبية للشركات، واستخدام التكنولوجيا كسلاح، والأزمة المناخية، والتحولات في موازين القوى؛ وما من سبيل أمامنا للنجاة من هذه الأزمات ما لم تكن مؤسساتنا الدولية مهيأة لتحقيق الغرض المنشود”.
لا بد من إصلاح المؤسسات الدولية المختلة
من الضروري تعزيز المؤسسات والنظم الدولية المنوط بها حماية حقوقنا، بدلًا من تقويضها؛ وأول خطوة في هذا الصدد هي التمويل الكامل لآليات حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، حتى يتسنى إجراء التحقيقات وتحقيق المساءلة والعدالة.
كما تدعو منظمة العفو الدولية إلى إصلاح أهم هيئة لاتخاذ القرار بالأمم المتحدة، وهي مجلس الأمن، بحيث تمنح صوتًا للبلدان والحالات التي تلقى التجاهل عادة، ولا سيما في جنوب العالم.
وقالت أنياس كلامار: “إن النظام الدولي بحاجة لإصلاح جدي يعبر عن واقع عالمنا اليوم؛ إذ لا يمكننا السماح للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالاستمرار في استخدام حق النقض، والتمادي في إساءة استغلال امتيازاتها، بلا ضابط ولا رابط. وغياب الشفافية والفعالية في عملية صنع القرار بمجلس الأمن يجعل المنظومة برمتها عرضة للتلاعب والاستغلال والاختلال إلى حد كبير”.
ولكن إذا كانت الحكومات التي لا تهتم بسوى مصالحها الذاتية قد تقاعست عن وضع حقوقنا الإنسانية على رأس أولوياتها، فإن حركة حقوق الإنسان تثبت أنه لا يزال بمقدورنا أن نستمد الإلهام والأمل من الناس الذين كان ينبغي على تلك الحكومات حمايتهم وصون حقوقهم.
ففي كولومبيا، كانت الجهود الدؤوبة لنشطاء حقوق المرأة وإجراءاتهم القانونية من الأسباب التي أفضت إلى قرار المحكمة الدستورية بإلغاء تجريم الإجهاض في الشهور الأربعة والعشرين الأولى من الحمل. وفي جمهورية جنوب السودان، أفرج عن ماغاي ماتيوب نغونغ، الذي حُكم عليه بالإعدام عام 2017 وهو في الخامسة عشرة من عمره، من السجن. وجاء الإفراج عنه بعد أن وقّع الآلاف من الأشخاص في مختلف أنحاء العالم على عريضة تطالب السلطات بإطلاق سراحه.
من السهل أن يشعر المرء باليأس إزاء ما يراه من فظائع وانتهاكات، ولكن طوال العام الماضي قدم الناس الدليل تلو الآخر على أننا لسنا عاجزين.
أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية
وأفرج إفراجًا مشروطًا عن برناردو كال زول، وهو من المدافعين عن البيئة من شعب المايا الأصليين، بعد أن أمضى أربع سنوات في أحد سجون غواتيمالا بتهم زائفة. وبعد سنوات من نضال الحركات النسائية في إسبانيا، أصدر البرلمان قانونًا يضع القبول في لب التعريف القانوني للاغتصاب. وألغت كل من كازاخستان وبابوا غينيا الجديدة عقوبة الإعدام.
وتقول أنياس كالامار: “من السهل أن يشعر المرء باليأس إزاء ما يراه من فظائع وانتهاكات، ولكن طوال العام الماضي قدم الناس الدليل تلو الآخر على أننا لسنا عاجزين”.
واختتمت أنياس كالامار قائلة: “لقد شهدنا نماذج بارزة من الإصرار والتحدي، من بينها مظاهرات النساء الأفغانيات ضد حكم طالبان، وخروج النساء الإيرانيات وسيرهن بلا حجاب في أماكن عامة أو قص شعرهن احتجاجًا على قوانين الحجاب الإلزامي. كما خرج إلى الشوارع الملايين من الأشخاص الذين يتعرضون للقمع المنهجي بسبب أنظمة السلطة الذكورية أو بسبب العنصرية للمطالبة بغد أفضل؛ لقد فعلوا ذلك في السنوات السابقة، وفعلوه كذلك في عام 2022. ولعل في ذلك عبرة وتذكرة لمن يمسكون بزمام السلطة بأننا لن نقف أبدًا موقف المتفرجين الذين لا حول لهم ولا قوة بينما هم يعتدون على كرامتنا ويهدرون مساواتنا وحريتنا”.