جنوب السودان: استشراء ظاهرة الإفلات من العقاب على جرائم الحرب بسبب النظام القضائي المشلول وقرارات العفو الشامل

قالت منظمة العفو الدولية في تقرير جديد، أصدرته اليوم، إن سلطات جنوب السودان سمحت باستشراء ظاهرة الإفلات من العقاب على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، التي شهدتها البلاد منذ اندلاع صراع وحشي في ديسمبر/كانون الأول 2013؛ إذ لم تسع لملاحقة الجناة إلا في قضية واحدة.

وفي تقريرها الصادر تحت عنوان: “هل تظن أننا سوف نقاضي أنفسنا؟ لا أمل في مساءلة الجناة في جنوب السودان”، تكشف المنظمة النقاب عن عجز نظام القضاء في جنوب السودان بسبب افتقاره للاستقلال؛ إذ ينصاع المدعون العامون لتعليمات وتوجيهات السلطة التنفيذية، وفي غياب مثل هذه التوجيهات، لا يقدمون على التحقيق في الجرائم الخطيرة.

من جوبا إلى ملكال، وواو، وبانتيو، وغيرها من المناطق، ارتُكبت سلسلة من الجرائم البشعة ضد المدنيين؛

جوان نيانيوكي، مديرة إقليم شرق أفريقيا والقرن الأفريقي والبحيرات العظمى في منظمة العفو الدولية

وقالت جوان نيانيوكي، مديرة إقليم شرق أفريقيا والقرن الأفريقي والبحيرات العظمى في منظمة العفو الدولية: “من جوبا إلى ملكال، وواو، وبانتيو، وغيرها من المناطق، ارتُكبت سلسلة من الجرائم البشعة ضد المدنيين؛ فاستجابت حكومة جنوب السودان بإنشاء لجان للتحقيق قلما ترى تقاريرها النور، وعندما تصدر في نهاية المطاف، تتجاهل نتائجها إلى حد كبير الجرائم التي ارتكبتها القوات الحكومية”.

وأضافت جوان نياينوكي قائلةً: “إن تقاعس السلطات عن مقاضاة ومعاقبة مرتكبي الجرائم بموجب القانون الدولي، سواء التي ارتكبتها قوات الحكومة أم قوات جماعات المعارضة المسلحة، يستوجب إيجاد آلية قضائية بديلة مجدية وفعالة لشعب جنوب السودان”.

ففي الوقت الراهن، يحق لرئيس الجمهورية سلفا كير المصادقة على أحكام القضاء العسكري أو رفضها، مما يمنحه، في الواقع الفعلي، حق النقض في الإجراءات القضائية التي يُفترض أن تكون مستقلة؛ وقد قام الرئيس كير، مرتين على أقل تقدير، بعزل قضاة المحاكم المدنية، منتهكاً بذلك قوانين البلاد.

إن تقاعس السلطات عن مقاضاة ومعاقبة مرتكبي الجرائم بموجب القانون الدولي، سواء التي ارتكبتها قوات الحكومة أم قوات جماعات المعارضة المسلحة، يستوجب إيجاد آلية قضائية بديلة مجدية وفعالة لشعب جنوب السودان.

جوان نياينوكي

وإلى جانب ذلك، فقد جرت عادة سلطات جنوب السودان بنفي صحة ما يرد من تقارير جديرة بالتصديق عن ضلوع القوات المسلحة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ وعندما يستجيب الرئيس فعلاً لهذه التقارير بإنشاء لجان للتحقيق، تأتي هذه اللجان مجردة من الاستقلال والحياد، ولا تؤدي إلى إجراء محاكمات جنائية في نهاية المطاف، باستثناء حالة واحدة.

لقد علق الكثير من الضحايا آمالهم في تحقيق العدالة والإنصاف على المحكمة المختلطة لجنوب السودان، التي تعهدت الحكومة بإنشائها، عندما وقعت على كل من اتفاقية السلام  عام 2015، ثم اتفاقية السلام التي تم تنشيطها عام 2018، ولكن لم يتم إنشاء هذه المحكمة بعد.

وقالت جوان نيانيوكي: “ما دامت حكومة جنوب السودان قد تقاعست، أو امتنعت عن اتخاذ إجراء بشأن الجرائم المروعة التي شهدتها السنوات الست الماضية، فقد أصبح لزاماً على الاتحاد الإفريقي الآن وضع مهلة زمنية يتعين على سلطات جنوب السودان خلالها التوقيع على الوثائق القانونية اللازمة لإنشاء المحكمة المختلطة؛ ويجب ألا تتجاوز هذه المهلة ستة أشهر”.

إذا فشلت السلطات في الالتزام بهذه المهلة، فيجب على الاتحاد الإفريقي المضي قدماً في إنشاء محكمة خاصة لجنوب السودان من جانب واحد، بغية إرساء آلية محايدة لتحقيق العدالة، وإنصاف من لا حصر لهم من ضحايا الجرائم المرتكبة أثناء الصراع الدائر في البلاد.

جوان نيانيوكي

وأردفت جوان نيانيوكي قائلةً: “أما إذا فشلت السلطات في الالتزام بهذه المهلة، فيجب على الاتحاد الإفريقي المضي قدماً في إنشاء محكمة خاصة لجنوب السودان من جانب واحد، بغية إرساء آلية محايدة لتحقيق العدالة، وإنصاف من لا حصر لهم من ضحايا الجرائم المرتكبة أثناء الصراع الدائر في البلاد”.

سراب الملاحقة القضائية

في سبتمبر/أيلول 2018، أدانت محكمة عسكرية 10 من جنود القوات الحكومية بقتل صحفي، واغتصاب بعض العاملات في مجال الإغاثة، أثناء هجوم على فندق تيران في يوليو/تموز 2016. وتُعدُّ هذه القضية الوحيدة حتى الآن التي جرت فيها ملاحقة مرتكبي جرائم وقعت في سياق الصراع قضائياً؛ بل أن هذه الملاحقة القضائية تمت إلى حد كبير بسبب الضغوط التي مارستها دول أجنبية بهدف تحقيق العدالة لمواطنيها.

غير أن إجراءات هذه القضية كانت مثار قلق بالغ بشأن عدالة المحاكمة؛ كما أن اختصاص القضاء العسكري لا يشمل الجرائم المرتكبة ضد المدنيين، وفقاً لما ينص عليه قانون جنوب السودان؛ وإنما كان ينبغي أن ينظر القضاء المدني هذه الجرائم، تماشياً مع الممارسات الدولية.

لولا الضغوط الدولية، وتدخل الحكومات التي وقع مواطنوها ضحايا لهجوم تيران، لما كان هناك ولو سجل واحد لأي ملاحقة قضائية ذات جدوى لما لا يعد ولا يحصى من انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم التي تنفطر لها القلوب، والتي تجرع ويلاتها سكان جنوب السودان على منذ ست سنوات وحتى الآن.

جوان نيانيوكي

وأضافت جوان نيانيوكي قائلة: “لولا الضغوط الدولية، وتدخل الحكومات التي وقع مواطنوها ضحايا لهجوم تيران، لما كان هناك ولو سجل واحد لأي ملاحقة قضائية ذات جدوى لما لا يعد ولا يحصى من انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم التي تنفطر لها القلوب، والتي تجرع ويلاتها سكان جنوب السودان على منذ ست سنوات وحتى الآن”.

قرارات العفو الشامل المحبطة للعدالة

كما وثقت منظمة العفو الدولية الاستخدام المفرط لقرارات العفو الشامل الذي يمنحه رئيس الجمهورية بكثرة، مما يعد انتهاكاً للقانون الدولي، وإهداراً لحق الضحايا في معرفة الحقيقة، ونيل العدالة والإنصاف، وجبر الضرر الذي لحق بهم.

ففي 24 يناير/كانون الثاني 2014، شكل الرئيس سلفا كير لجنة للتحقيق في انتهاكات واعتداءات حقوق الإنسان التي وقعت إبان الاشتباكات التي اندلعت في جوبا في ديسمبر/كانون الأول 2013، وتلقى تقرير اللجنة في 2 ديسمبر/كانون الأول 2014.

ولم ينشر تقرير اللجنة علناً قط؛ وليس هذا فحسب، بل في 24 فبراير/شباط 2015، أصدر الرئيس سلفا كير عفواً شاملاً عن جميع أفراد القوات المسلحة الذين زُعم ضلوعهم في جرائم خطيرة وقعت أثناء ذلك الهجوم.

وظل الإفلات من العقاب هو سيد الموقف تارة أخرى، عندما اقتحم جنود القوات الحكومية موقع حماية المدنيين التابع للأمم المتحدة في ملكال في فبراير/شباط 2016، واعتدوا على النازحين داخلياً، فقتلوا منهم ما لا يقل عن 29، وأصابوا 140 آخرين بجروح، ودمروا 1251 ملاذاً.

ثم شكل الرئيس لجنة تحقيق أخرى، ولم يرد في تقريرها عن الهجوم أي ذكر للانتهاكات التي ارتكبها جنود القوات الحكومية، ولا توصية بأي تدابير لمحاسبة الأفراد المسؤولين عن أعمال القتل أو الجرائم الأخرى التي ارتكبها الجنود أثناء الهجوم.

لا بد من مساءلة الجناة الذين ارتكبوا جرائم بشعة أثناء الصراع، ومعاقبتهم على جرائمهم، وليس منحهم نصيباً من السلطة.

جوان نيانيوكي

بل حدث في مرات عديدة أن صدرت ترقيات عسكرية لأفراد يخضعون لعقوبات فرضتها الأمم المتحدة عليهم بسبب دورهم المزعوم في اقتراف جرائم بموجب القانون الدولي، أو قُدّمت لهم مناصب في الحزب الحاكم.

واختتمت جوان نيانيوكي قائلة: “لا بد من مساءلة الجناة الذين ارتكبوا جرائم بشعة أثناء الصراع، ومعاقبتهم على جرائمهم، وليس منحهم نصيباً من السلطة”.