شبحٌ يخيّم فوق حرية التعبير في لبنان

نشر هذا المقال في موقع “درج”

كأن شبحاً يخيّم فوق التعبير وحريّاته في لبنان. ومع أن حريّة التعبير هنا لا تتمتع دوماً بقدرةٍ منهجيّةٍ على التأثير والتغيير، تراها وُضِعَت قيد التقنين كحالنا مع الماء والكهرباء.

سلطاتٌ كثيرة صارت تسائل أصحاب الرأي عن آرائهم/نّ. “مكتب مكافحة الجريمة الإلكترونية” يستدعي المتكلّمين/ات على وسائل التواصل الاجتماعي للتحقيق.. وكذلك يفعل بحقهم/نّ وبحق الصحافيين/ات كلٌّ من: النيابة العامة التمييزية، وزير العدل، مخابرات الجيش، و”شعبة المعلومات”… ناهيك عن البلاغات الشخصيّة والبلاغات المجهولة والاستدعاءات إلى المخافر والتواقيع على تعهّداتٍ بعدم التعرّض للشخصيّات السياسيّة والدينيّة العامّة.

وبين أيدي هذه السلطات الكثيرة التي تسائل، تستقر قوانين كثيرة تجرّم.

لذلك، يبدو وكأن شبحاً يخيّم فوق التعبير وحريّاته في لبنان.

قوانين تحاصر الحريّة

المادة 13 من الدستور اللبناني تكفل “حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات”، ولكن “ضمن دائرة القانون”. تلك هي الثغرة الدستورية التي أتاحت سنّ قوانين تحاصر التعبير تعسّفاً، تولّد أنماط لجمه، وتجرّم أصحابه. فدائرة القانون واسعة.

وبمراجعة الأشهر الثلاثة الماضية، يتضح أن السلطات تكثر من استخدام قانون العقوبات بشكلٍ تعسّفيّ في قضايا الرأي، وتحديداً المادة 384 منه التي تعاقب بالسجن حتى السنتين على تحقير الرئيس، العلم أو شعار الدولة، والمادتان 474 و317 اللتان تعاقبان بالسجن حتى 3 سنوات على “تحقير الشعائر الدينية” و”إثارة النعرات المذهبية”. كذلك، استخدمت المادة 219 التي تتيح اتهام الصحافي/ة بتسهيل “جريمة” ضيفه لو أقدم على كلام يجرّمه القانون.

وخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة أيضاً، استخدمت السلطات المادة 23 من قانون جرائم المطبوعات التي تعاقب على التعرّض لشخص رئيس دولة أجنبية بسجن الصحافيين لمدة سنتين. واستخدمت المادة 35 من قانون تنظيم الإعلام المرئيّ والمسموع التي تعاقب المؤسسات الإعلامية المخالفة للقانون بعقوباتٍ تتضمن إقفال المؤسسة لمدةٍ تصل إلى شهر.

تطوّر “عسكري” مقلق

لعلّ التطوّر الأكثر لفتاً للانتباه وإثارةً للقلق في هذا السياق هو تفعيل دورٍ للقضاء العسكري في قضايا الرأي. إذ أصدرت المحكمة العسكرية في 10 كانون الثاني 2018 حكماً غيابيّاً على حنين غدّار بالسجن لمدة 6 أشهر إثر بلاغٍ مجهول المصدر ضدها، تناول آراءً نطقت بها خلال مشاركتها في ندوةٍ في واشنطن حيث تقيم. وحسبما أكّدت لـ “منظمة العفو الدوليّة”، اكتشفت غدّار صدفةً أنها قيد المحاكمة خلال زيارتها للبنان في عيد الفصح الماضي، لمّا أخبرها الجيران أن عسكريين سألوا عنها في غيابها. سعى محاميها لفهم السبب في مخفر الشرطة، وطلب لموكلته “النشرة” التي أوضحت أنها قيد المحاكمة في القضاء العسكري: فيه، لا يتمتع المدنيون/ات بحقّ الدفاع كما لا تمتاز المحاكمات بشفافية وعلانية، ما يجعله على تناقضٍ مع معايير العدالة الدوليّة. وشرح محامي غدّار أن الحكم العسكري صدر بصفتها مواطنةً لا صحافيّة، وبالاستناد إلى المادة 157 من القانون العسكري التي تعاقب بالسجن حتى ثلاث سنوات “كلّ شخص يقدم (…) على تحقير العلم أو الجيش أو المسّ بكرامته وسمعته أو معنوياته”.

وعلى فداحته، لم يأت هذا التدخّل العسكري وحيداً في سياق حرية التعبير. إذ برز دورٌ لمخابرات الجيش في ثكنة أبلح تحديداً، منذ مطلع العام الجاري، في استدعاء ناشطين من منطقة البقاع، إما لمطالبتهم بتوقيع تعهّدٍ بعدم التعرّض لشخصياتٍ رسمية أو لإخضاعهم لجلسات تحقيقٍ مكثّفة ومتتالية تسبق العرض المؤجّل على القضاء. يتخلل هذا التوقيف نومٌ في السجن قد يصل لثلاثة ليالٍ، ومصادرة للحقّ القانونيّ بمقابلة المحامي والعائلة.

لمن تنفعل “الرقابة”؟

بمراقبة القوانين التي استخدمت أخيراً في قضايا الرأي، يتضح نمط التعبير الذي يستدرج الانفعال التأديبي للرقابة. إذ تدور مواد الادعاء حول: الرئاسات ورجالها، النشيد والعلم، الدين ورجاله، الجيش، والدول الصديقة. يفترض بأصحاب السلطة أن يكونوا الأشدّ تحمّلاً للنقد والأكثر تقبلاً له، كونهم موظّفين عامّين خاضعين للحساب العام. لكن، بدل أن يحمي القانون اللبنانيّ آليات المساءلة المتاحة للناس، تراه يحمي أصحاب السلطة من “التشهير”.

وإذا سعى ساعٍ للمساءلة، يصطاده قانون التشهير. ففي قضية رأي أخرى لا تزال مجرياتها مستمرة، استدعي الصحافيّ محمد زبيب للتحقيق كونه نشر على مواقع التواصل وثيقةً تتهم وزيراً بالفساد. ادعى الوزير على الصحافيّ أمام محكمة المطبوعات، فردّت المحكمة الدعوى لانتفاء الصلاحية. وعلى الرغم من أن التشهير لا يجب أن يُصنّف كجريمةٍ جنائية، تلقّف القاضي الجزائيّ القضية وادعى مجدداً على محمد زبيب بموجب قانون العقوبات. حالياً، الوزير يقاضي الصحافيّ بتهمة التشهير، بينما الصحافيّ يجهد لينظر القضاء في الوثيقة. والمادة 387 من قانون العقوبات تتيح له أن “يبرأ من جرم الذم إذا أثبت صحّة أقواله”. لكن القضاء، حتى الساعة، يحاكم التشهير ولا ينظر في تهمة الفساد.

ولمحاصرة المساءلة أيضاً، يسود نمطَ الاستدعاء والتوقيف طابعٌ تأديبيٌّ، يبقي الصحافيين/ات والناشطين/ات تحت خطر الاستجواب والتحقيق، أو قيد المحاكمة المؤجلة، عالقين في وضعيّةٍ تحفّز الرقابة الذاتية. أما التعهّد بعدم التعرّض للشخصيات العامة فلعله الإجراء الأوضح دلالةً على المقاربة التأديبيّة التي تنتهجها السلطات.

إن الدولة، بممارساتها هذه، لا تخرق قوانين محلية فحسب، لكنها أيضاً تخرق التزام لبنان بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسيّة الذي انضمّت إليه سنة 1972. إذ يلزمها هذا العهد باحترام حرية التعبير (المادة 19)، كما يلزمها بعدم محاكمة المدنيين في القضاء العسكري (المادتان 2 و14).

قبل المطالبة بإلغاء المواد التي تحاصر التعبير والتأسيس لقانونٍ يحمي حريّاته، قد يكون الأجدى بالسلطة التشريعية التوقّف أمام روحية هذا التشريع المتوقّع منها: هل سقف القانون هو صون حقوق الناس بلا تمييز أم تأمين الحماية للسلطة؟

الخطر في المنع

يخيّم شبح الاستدعاء فوق حرية التعبير، بينما معركة الحريّات ليست في أوجها. إذ، من جهة، تعيش الصحافة أزمةً ماليةً غير مسبوقة جعلت محور اهتمامها هو الاستمرارية في ظلّ إقفال مؤسساتٍ صحافية، ترنح أخرى، وتسريح عدد مؤلم من الصحافيين/ات من وظائفهم/ن. ومن جهة أخرى، قد تشعر السلطات بحريّةٍ أكبر في محاصرة الرأي باسم الأمن نظراً لواقع المنطقة. وتجد في المجتمع مريدين لهذه القوامة الرسمية على الرأي العام.

لكن القوانين المحليّة والاتفاقيّات الدوليّة التي تحمي حريّة التعبير لم تأتِ أو تُصاغ لتلائم أزمنة الأمن والاستقرار فحسب، ولا تكمن أهميتها في صونها للرأي الذي يوافق مزاج الأنظمة أو حتى المزاج العام. لقد وُجدت هذه الاتفاقيات لتصون الحرية في خضم الصعوبة والخطر تحديداً، ولتصون التعبير عن الرأي الأشد عدائيةً أو صدماً حتى، طالما لا يحضّ على العنف.

في أصعب الأوقات، يحتاج الناس إلى حقوقهم، ويحتاجون التعبير عن أقصى الأفكار. أما قمع الحريات فلم ينقل إلينا يوماً تجربةً كانت نهايتها سعيدة.

سحر مندور
باحثة في الشؤون اللبنانيّة في “منظمة العفو الدولية”