جنوب السودان: الفظائع المستمرة تحوِّل الخزان الغذائي في البلاد إلى ساحة للقتل

  • ما يقرب من مليون شخص يُشردون قسراً من ديارهم في الإقليم الاستوائي، مما يزيد من أزمة اللاجئين في العالم، والتي تتفاقم بوتيرة سريعة لم يسبق لها مثيل
  • مدنيون يتعرضون للقتل بالرصاص، وللطعن بالسواطير حتى الموت، وللحرق في منازلهم
  • نساء وفتيات يتعرضن للاختطاف والاغتصاب الجماعي

أظهر تقرير موجز، نشرته منظمة العفو الدولية اليوم، أن مئات الالاف من الأشخاص قد أُجبروا على الفرار من ديارهم في منطقة الإقليم الاستوائي الخصبة في جنوب السودان على مدار العام الماضي، بسبب امتداد النزاع في البلاد إلى جبهة قتال جديدة، وهو الأمر الذي أدى إلى وقوع فظائع مستمرة وتفشي الجوع والخوف.

وقد زار باحثون من منظمة العفو الدولية هذه المنطقة في يونيو/حزيران 2017، ووثَّقوا قيام القوات الحكومية بالأساس، فضلاً عن قوات المعارضة في المنطقة الجنوبية، بارتكاب جرائم بموجب القانون الدولي وانتهاكات أخرى جسيمة لحقوق الإنسان ضد المدنيين، بما في ذلك جرائم حرب.

وقد أدت هذه الفظائع إلى نزوح جماعي لما يقرب من مليون شخص، ومن بينهم لاجئون فروا إلى دولة أوغندا المجاورة.

وتعليقاً على ذلك، قالت دوناتيلا روفيرا، كبيرة مستشاري برنامج الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية، والتي عادت لتوِّها من زيارة للمنطقة: “لقد أدى تصاعد القتال في منطقة الإقليم الاستوائي إلى تزايد الوحشية ضد المدنيين. فقد تعرض رجال ونساء وأطفال للقتل بإطلاق النار عليهم، وللطعن بالسواطير حتى الموت، وللإحراق أحياءً داخل بيوتهم. كما تعرضت نساء وفتيات للاختطاف والاغتصاب الجماعي”.

فقد تعرض رجال ونساء وأطفال للقتل بإطلاق النار عليهم، وللطعن بالسواطير حتى الموت، وللإحراق أحياءً داخل بيوتهم. كما تعرضت نساء وفتيات للاختطاف والاغتصاب الجماعي.

دوناتيلا روفيرا، كبيرة مستشاري برنامج الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية

وأضافت دوناتيلا روفيرا قائلةً: “لقد تعرضت بيوت ومدارس ومنشآت طبية ومقار منظمات إنسانية للنهب والتخريب وللحرق حتى سُويت بالأرض. كما يُستخدم الغذاء كسلاح في الحرب”.

ومضت دوناتيلا روفيرا تقول: “إن هذه الفظائع مستمرة، وقد أدت إلى تشريد مئات الآلاف من الأشخاص قسراً من ديارهم، بعد أن كانوا منذ عام فقط بمأمن نسبياً من أهوال النزاع”.

وكانت منطقة الإقليم الاستوائي في جنوب السودان قد ظلت في معظمها بعيدةً عن أحداث العنف السياسي والطائفي التي اجتاحت البلاد منذ عام 2013، عندما اندلع القتال بين أفراد “جيش التحرير الشعبي السوداني” الموالي للرئيس سالفا كير، والقوات الموالية لنائب الرئيس رياك مشار.

إلا إن هذا الوضع تغير في منتصف عام 2016، عندما توجهت القوات الحكومية وقوات المعارضة، لأسباب مختلفة، إلى بلدة ياي، وهي بلدة استراتيجية يقطنها حوالي 300 ألف نسمة، وتقع على مسافة نحو 150 كيلومتراً جنوب غرب العاصمة جوبا، على طريق تجاري أساسي يؤدي إلى أوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

وقد ارتكبت القوات الحكومية سلسلة من الانتهاكات مع بقاء الجناة بمنأى عن العقاب، وساندتها في ذلك ميليشيات حليفة، بما في ذلك الميليشيا سيئة السمعة المعروفة باسم “ماثيان أنيور”، وهي ميليشيا لا تخضع للمساءلة، وتتألف من مقاتلين شبان معظمهم من قبيلة “الدينكا”. كما ارتكبت قوات المعارضة انتهاكات جسيمة، وإن كانت على نطاق أصغر.

المذابح وأعمال القتل المتعمدة

روى كثير من شهود العيان من القرى المحيطة ببلدة ياي لمنظمة العفو الدولية أن القوات الحكومية والميليشيات الحليفة قتلت عمداً أعداداً من المدنيين دون أدنى اكتراث. كما وصف بعض الأشخاص الذين فروا من أعمال القتل نمطاً مماثلاً.

ووقعت إحدى هذه الاعتداءات في مساء يوم 16 مايو/أيار 2017، حيث اعتقل الجنود الحكوميون بشكل تعسفي 11 رجلاً من قرية كدوبي في مقاطعة كاجو كيجي، بالقرب من الحدود مع أوغندا. وأدخل الجنود ثمانيةً من هؤلاء عنوةً في كوخ، وأحكموا غلق بابه، ثم أشعلوا النار فيه، وأطلقوا عدة طلقات داخل البيت المحترق. وقد لقي ستة رجال مصرعهم في هذه الحادثة، حيث تُوفي اثنان حرقاً، بينما قُتل الأربعة الآخرون رمياً بالرصاص وهم يحاولون الفرار، وذلك حسبما روى أربعة من الناجين لمنظمة العفو الدولية.

ووصفت جويس، وهي أم لستة أطفال وتنحدر من قرية بياوا، جنوب بلدة ياي، كيف قُتل زوجها وخمسة آخرون من أهل القرية في هجوم مماثل، يوم 18 مايو/أيار 2017. كما ذكرت جويس لمنظمة العفو الدولية أن الجنود دأبوا على تعذيب أهل القرية مراراً قبل المذبحة. وروت ما حدث قائلةً:

“كانت هذه هي المرة الخامسة التي يهاجم فيها جنود الجيش قريتنا. وفي المرات الأربع السابقة، كانوا ينهبون الممتلكات ولكنهم لم يقتلوا أحداً. وقد اعتادوا الحضور للقرية، والقبض على بعض الأشخاص وتعذيبهم وسلب بعض الممتلكات. كانوا يقتادون أشخاصاً إلى أماكن خفية ويقومون بتعذيبهم. كما كانوا يعتقلون فتيات صغيرات ويُقدمون على اغتصابهن ثم يطلقون سراحهن. [فقد اغتصبوا] سوزي، ابنة شقيق زوجي، البالغة من العمر 18 عاماً [في القرية] يوم 18 ديسمبر/كانون الأول 2016”.

كانت هذه هي المرة الخامسة التي يهاجم فيها جنود الجيش قريتنا. وفي المرات الأربع السابقة، كانوا ينهبون الممتلكات ولكنهم لم يقتلوا أحداً. وقد اعتادوا الحضور للقرية، والقبض على بعض الأشخاص وتعذيبهم وسلب بعض الممتلكات. كانوا يقتادون أشخاصاً إلى أماكن خفية ويقومون بتعذيبهم. كما كانوا يعتقلون فتيات صغيرات ويُقدمون على اغتصابهن.

جويس، أم لستة أطفال وتنحدر من قرية بياوا، جنوب بلدة ياي

وفي واقعة أخرى، اختفى تسعة من القرويين بعد أن اقتادهم الجنود من ثكنة عسكرية بالقرب من منطقة جيمنو، الواقعة على مسافة 13 كيلومتراً من بلدة ياي، يوم 21 مايو/ايار 2017. وتوصل تحقيق للشرطة إلى تحديد مكان جثث الأشخاص التسعة في منتصف يونيو/حزيران. ويُعتقد أن الضحايا تعرضوا للطعن بالسواطير حتى الموت. ولم يُحاسب أي شخص على هذه الواقعة، وهو أمر معتاد، على ما يبدو، عندما تحاول الشرطة التحقيق في حالات قتل مدنيين على أيدي جنود الجيش.

وكثيراً ما تكون الهجمات التي تشنها القوات الحكومية على القرى بمثابة انتقام، على ما يبدو، من أنشطة قوات المعارضة في المنطقة.

كما أقدم مقاتلون مسلحون من المعارضة على قتل مدنيين عمداً للاشتباه في أنهم من مؤيدي الحكومة، وكثيراً ما قُتل أشخاص لأنهم من قبيلة “الدينكا”، أو من اللاجئين من منطقة جبال النوبة في السودان، حيث يُتهم هؤلاء بأنهم متعاطفون مع الحكومة.

الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي والعنف بسبب النوع

وثَّقت منظمة العفو الدولية أيضاً تفشي عمليات اختطاف النساء والفتيات واغتصابهن في شتى أنحاء الإقليم الاستوائي منذ تصاعد القتال في العام الماضي.

ففي مقابلة مع منظمة العفو الدولية، قالت ماري، وهي أم لخمسة أطفال وتبلغ من العمر 23 عاماً، إن “الموت هو السبيل الوحيد أمام النساء والفتيات لكي يصبحن في أمان. فلا سبيل آخر للأمان ما دمنا أحياءً. لقد وصل الوضع إلى هذا الحد من السوء”.

إن الموت هو السبيل الوحيد أمام النساء والفتيات لكي يصبحن في أمان. فلا سبيل آخر للأمان ما دمنا أحياءً. لقد وصل الوضع إلى هذا الحد من السوء

ماري، وهي أم لخمسة أطفال وتبلغ من العمر 23 عاماً

وكان ثلاثة جنود قد اقتحموا بيت ماري في منتصف الليل في أحد أيام إبريل/نيسان 2017، واغتصبها اثنان منهم. وفيما بعد، فرَّت ماري مع أطفالها إلى بيت آخر مهجور، ولكن لم يمض وقت طويل حتى أقدم مهاجم مجهول على إضرام النار في البيت أثناء الليل، بينما كانت الأسرة نائمة، مما أجبرها على الفرار مرة أخرى.

وتواجه النساء بشكل خاص مخاطر الاعتداءات الجنسية عندما يخرجن من البلدة بحثاً عن الطعام في المناطق الريفية المحيطة، ويُعد خروجهن ضرورة ملحَّة بسبب تناقص إمدادات الغذاء وتزايد عمليات السلب.

ووصفت امرأة تُدعى صوفيا، وتبلغ من العمر 29 عاماً، لمنظمة العفو الدولية كيف اختطفتها قوات المعارضة مرتين، حيث ظلت في الأسر مع نساء أخريات لما يقرب من شهر في المرة الأولى ولأسبوع في المرة الثانية، وتعرضت للاغتصاب مراراً في أثناء ذلك. ولم يرتدع الجناة أمام توسلاتها بأنها أم لثلاثة أطفال، وأن زوجها قُتل بالرصاص على أيدي القوات الحكومية.

وفيما بعد، فرَّت صوفيا إلى بلدة ياي، حيث تواجه نقصاً شديداً في إمدادات الغذاء.

استخدام الغذاء كسلاح في الحرب

تُفرض قيود مشددة على حصول المدنيين على المواد الغذائية. فقد قامت القوات الحكومية، وقوات المعارضة بقطع إمدادات الغذاء عن مناطق معينة، ودأبت بشكل منظم على نهب المواد الغذائية من الأسواق والبيوت، وعلى استهداف المدنيين الذين لديهم، ولو أقل القليل من المواد الغذائية على طول جبهة القتال. واتهم طرفا النزاع المدنيين بتقديم إمدادات الطعام لقوات الطرف المعادي أو بتلقي الإمدادات منه.

وفي بلدة ياي، فرَّ أغلب السكان في غضون العام الماضي، بينما يتعرض المدنيون الباقون لشبه حصار، ويعانون من نقص شديد في المواد الغذائية حيث لم يعد بمقدورهم الحصول على الغذاء من المناطق الريفية المحيطة.

وفي 22 يونيو/حزيران 2017، حذَّرت الأمم المتحدة من أن شُح الغذاء وصل إلى مستويات غير مسبوقة في بعض المناطق في جنوب السودان.

من المآسي المؤلمة في هذه الحرب أن تلك المنطقة الخصبة من جنوب السودان، والتي كان بالإمكان قبل عام فقط أن توفر محاصيل تُطعم ملايين البشر، قد تحولت إلى ساحات قتال دامية أجبرت ما يقرب من مليون شخص على الفرار بحثاً عن الأمان.

جوان مارينر، كبيرة مستشاري برنامج الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية

وقالت جوان مارينر، كبيرة مستشاري برنامج الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية: “من المآسي المؤلمة في هذه الحرب أن تلك المنطقة الخصبة من جنوب السودان، والتي كان بالإمكان قبل عام فقط أن توفر محاصيل تُطعم ملايين البشر، قد تحولت إلى ساحات قتال دامية أجبرت ما يقرب من مليون شخص على الفرار بحثاً عن الأمان”.

واستطردت جوان مارينر قائلةً: “يجب على جميع أطراف النزاع كبح جماح مقاتليها والكف فوراً عن استهداف المدنيين الذين يحظون بالحماية بموجب قوانين الحرب. وينبغي أن يُقدم المسؤولون عن هذه الفظائع من جميع الأطراف إلى ساحة العدالة. وفي الوقت نفسه، يجب على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أن تقوم بمهامها في حماية المدنيين من المذابح المتواصلة”.