يتعين على العالم انتشال ليبيا من فوضى حقوق الإنسان بعد انقضاء خمس سنوات على الانتفاضة التي أقصت القذافي

قالت منظمة العفو الدولية، في الذكرى الخامسة للانتفاضة التي وضعت حداً لحكم العقيد القذافي السلطوي الوحشي، إنه لا بد من من تقديم الدعم الدولي العاجل والمستمر لمساعدة ليبيا على إنهاء الحلقة المفرغة من العنف، وتفشي الانتهاكات الواسعة، اللذين يمسكان بخناق ليبيا.

 فقد انخرط المجتمع الدولي بنشاط في عملية سلمية ترمي إلى وضع حد للقتال، وتشكيل حكومة وحدة وطنية. بيد أن المساءلة عن جرائم الحرب التي لا تحصى، وسواها من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان التي رافقت تصاعد العنف، ما زالت بعيدة المنال. وثمة حاجة ماسة كذلك للتمويل الدولي العاجل لتلافي وقوع كارثة إنسانية في البلاد.

 وفي هذا السياق، قال سعيد بومدوحة، نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، إن “من واجب قادة العالم، ولا سيما أولئك الذين شاركوا في تدخل حلف الأطلسي الذي أسهم في الإطاحة بالعقيد القذافي في 2011، ضمان إخضاع المسؤولين عن الفظائع التي تكشفت في ليبيا عشية ذلك للمحاسبة.

مدار السنوات الخمس المنصرمة، انحدرت ليبيا إلى أعماق جديدة من جحيم الفوضى التي أتت على حقوق الإنسان، وسط حالة من انعدام القانون، وتفشي الانتهاكات وجرائم الحرب، على أيدي الجماعات المسلحة والميليشيات المتناحرة.

سعيد بومدوحة، نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية

 “فعلى مدار السنوات الخمس المنصرمة، انحدرت ليبيا إلى أعماق جديدة من جحيم الفوضى التي أتت على حقوق الإنسان، وسط حالة من انعدام القانون، وتفشي الانتهاكات وجرائم الحرب، على أيدي الجماعات المسلحة والميليشيات المتناحرة، وتصاعد التهديد من جانب الجماعة المسلحة التي تدعو نفسها “الدولة الإسلامية”. ويتعين لاسترداد حكم القانون أن يترافق مع العدالة بالنسبة للجرائم الواسعة النطاق التي ارتكبت، ومع الدعم الإنساني الذي تمس الحاجة إليه. ويتعين على العالم ألا يخذل الليبيين في ساعة حاجتهم.”

فبينما اندفعت قوى عالمية مثل فرنسا وإيطاليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بلا هوادة للانخراط في التدخل الأطلسي الذي ساعد على الإطاحة بالعقيد القذافي في 2011، تنصلت هذه الدول بصورة مزرية من مهمة التصدي للانتهاكات المتفشية في ليبيا، أو الضغط من أجل إجراء تحقيقات في جرائم الحرب هذه.

تفشي الانتهاكات

تتفشى المصادمات المسلحة في ليبيا اليوم بين الميليشيات والجماعات المسلحة المتناحرة، بينما انشطرت البلاد بين حكومتين- لا تملك أي منهما السيطرة الفعالة على الأرض. ولم يصوت مجلس النواب بعد على حكومة توافق وطني مقترحة توصل إليها مجلس رئاسي بدعم دولي هذا الأسبوع، في حين تحولت أجزاء من بنغازي، التي تجمعت فيها حشود المحتجين في 2011 إلى ركام.

أما نطاق الانتهاكات فهو مذهل. وقد أقدمت القوات التابعة لجميع الأطراف على مئات عمليات الاختطاف واحتجاز الرهائن والتعذيب وإساءة المعاملة، وقتلت العديد من المعتقلين دون محاكمة، وشنت هجمات عشوائية على مناطق سكنية، ارتقت في بعض الحالات إلى مستوى جرائم حرب.

واستغلت القوات الموالية “للدولة الإسلامية” فراغ السلطة الذي نجم عن النزاع المسلح، فاستولت على مناطق روّعت فيها السكان المدنيين بفرضها تفسيرها الخاص للشريعة الإسلامية. كما قامت بعمليات إعدام علنية، تاركة جثث الضحايا معلقة أمام أعين الناس، وكذلك بعمليات جلد وبتر للأطراف، وفرضت بصرامة الزي الإسلامي المتشدد على النساء.

 وواجه المهاجرون وطالبو اللجوء واللاجئون في ليبيا الاختطاف والابتزاز والتعذيب والعنف الجنسي على أيدي المهربين والمتجرين بالبشر، وكذلك على أيدي الجماعات المسلحة.

عملية سلمية مطولة

ساند المجتمع الدولي تسوية سلمية توسطت فيها الأمم المتحدة، وتم التوصل إليها في نهاية ديسمبر/كانون الأول؛ لوضع حد للعنف الذي تعاني منه ليبيا، وتشكيل حكومة وفاق وطني، باعتبارها الوسيلة الناجعة لخلق حكومة مركزية قادرة على وقف تقدم تنظيم “الدولة الإسلامية”، ومعالجة قضية الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. ويتضمن الاتفاق أحكاماً قوية بشأن حقوق الإنسان وتدابير للمساءلة. بيد أنه ورغم توقيع الاتفاق من جانب جميع الأطراف، إلا أن تنفيذه ظل رهناً بتشكيل حكومة الوحدة واستعادة سيادة القانون.

من غير الجائز أن ينتظر المجتمع الدولي إلى ما لا نهاية حتى تنجح العملية السياسية، متجاهلاً حقوق مئات آلاف المدنيين الذين عانوا نتيجة لانتهاكات حقوق الإنسان.

سعيد بومدوحة

 وأضاف سعيد بومدوحة قائلاً: “من غير الجائز أن ينتظر المجتمع الدولي إلى ما لا نهاية حتى تنجح العملية السياسية، متجاهلاً حقوق مئات آلاف المدنيين الذين عانوا نتيجة لانتهاكات حقوق الإنسان. ومع أن اعادة فرض حكم القانون في ليبيا أمر مهم، إلا أنه من المرجح أن يستغرق سنوات. ويجب أن يترافق مع إحقاق العدالة الدولية بشأن الجرائم التي ارتكبت وخرقت القانون الدولي، ومع اتخاذ تدابير إنسانية فورية لمساعدة ضحايا النزاع المسلح”.

التحقيقات الدولية

شهدت سنوات النزاع في ليبيا انهياراً هائلاً لنظام العدالة، ما يعني أن انتهاكات واسعة النطاق قد مضت دونما عقاب من أي نوع. وما انفك المحامون والقضاة والناشطون والمدافعون عن حقوق الإنسان يواجهون التهديدات والهجمات بلا هوادة. ولم تعلم منظمة العفو الدولية ولو بحالة واحدة قُدم فيها عضو في الميليشيات إلى ساحة العدالة بجريرة ارتكابه انتهاكات لحقوق الإنسان منذ 2011.

علماً بأن مجلس الأمن الدولي أحال الوضع في ليبيا بالإجماع، في فبراير/شباط 2011، إلى “المحكمة الجنائية الدولية”، عقب ورود تقارير عن “انتهاكات جسيمة ومنهجية لحقوق الإنسان” على أيدي قوات العقيد القذافي. بيد أن “المحكمة الجنائية الدولية” قد تقاعست على نحو متكرر عن فتح تحقيقات جديدة، متذرعة بعدم الاستقرار في ليبيا وبشح الموارد. ومع أنه يمكن القيام بالكثير لجمع الأدلة وحفظها من خارج حدود ليبيا، حيث فر آلاف الضحايا والشهود أثناء الموجات المختلفة من الهروب منذ 2011، بما في ذلك منذ اندلاع النزاعات المستمرة الحالية.

 ومع أن مدعي عام “المحكمة الجنائية الدولية”، فاتو بنسودة، قد طلبت في الآونة الأخيرة تخصيص موارد لإجراء تحقيقات إضافية، غير أنها أشارت إلى أنه من غير المرجح أن يستجاب لطلبها.

إن المحكمة الجنائية الدولية تتيح مساراً تمس الحاجة إليه للمساءلة في ليبيا. فبالنظر إلى الفراغ القضائي في ليبيا، يغدو دور المحكمة حاسماً أكثر كي يترافق العمل من أجل تنفيذ اتفاق السلام مع التحقيقات الدولية التي تكفل إخضاع أولئك المسؤولين عن الجرائم البشعة للمحاسبة.

سعيد بومدوحة

ومضى سعيد بومدوحة إلى القول: “إن المحكمة الجنائية الدولية تتيح مساراً تمس الحاجة إليه للمساءلة في ليبيا. فبالنظر إلى الفراغ القضائي في ليبيا، يغدو دور المحكمة حاسماً أكثر كي يترافق العمل من أجل تنفيذ اتفاق السلام مع التحقيقات الدولية التي تكفل إخضاع أولئك المسؤولين عن الجرائم البشعة للمحاسبة.

 “ومن شأن إحالة القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية دون مدها بالدعم السياسي والمالي الكافي لإجراء التحقيقات أن يبعث بالرسالة الخطأ إلى الضحايا والجناة، على السواء. ويتعين على الدول زيادة دعمها إلى المحكمة الجنائية الدولية كيما تتمكن في نهاية المطاف من التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في ليبيا. ويجب أن يوضح بجلاء لمرتكبي الجرائم، بمن فيهم الشبكة الواسعة من الميليشيات داخل ليبيا، أنها لن تستطيع مواصلة ارتكاب جرائمها والإفلات من العقاب.”

 كما إن قرارات مجلس الأمن الدولي التي فرضت عقوبات موجهة، بما في ذلك تجميد الأرصدة وحظر السفر، ضد مرتكبي الانتهاكات والخروقات لحقوق الإنسان لم تجد طريقها إلى التطبيق.

أزمة إنسانية متصاعدة

في غضون ذلك، استمرت الانتهاكات وما برحت الحالة الإنسانية تتدهور بصورة حادة. فطبقاً لتقديرات الأمم المتحدة، ألحق العنف الأذى بنحو 2.5 مليون شخص، وأدى إلى نزوح ما يربو على 430,000 شخص. كما أدى إلى تعطيل المستشفيات والمدارس وخدمات من قبيل الكهرباء والماء والصرف الصحي. ومع ذلك، لم يحقق النداء الإنساني للأمم المتحدة لتزويد 1.3 مليون شخص في ليبيا بالخدمات الأساسية، بما في ذلك الرعاية الطبية والتعليم وحماية اللاجئين والمهاجرين، سوى واحد بالمئة من الأموال اللازمة للتنفيذ.

 وأضاف سعيد بومدوحة قائلاً: “يتعين على المجتمع الدولي أن لا يتجاهل المحنة الإنسانية للشعب الليبي. ولا بد من ألا تدير القوى العالمية ظهرها لمعاناة أعداد لا تحصى من المدنيين الليبيين، وعليها أن تلبي متطلبات النداء الإنساني للأمم المتحدة”.

 وتدعو منظمة العفو الدولية المجتمع الدولي كذلك إلى زيادة الدعم المقدم لمن يحتاجون إلى الحماية، بتوفير طرق آمنة وقانونية لهم كي ينجوا من آثار النزاع. فمنذ 2014، فر من البلاد مئات آلاف المدنيين، بمن فيهم ليبيون ولكن مهاجرون وطالبو لجوء ولاجئون أيضاً. والعديد من هؤلاء ضحايا لانتهاكات من قبيل الاختطاف ومحاولات الاغتيال، أو واجهوا التهديدات. وفي معظم الأحيان، غادر هؤلاء إلى تونس، حيث كافح عديدون من أجل أن يعملوا ويعيلوا أنفسهم. ولكن في غياب وثائق الإقامة والسبل اللازمة لإعالة أنفسهم، أجبر بعض هؤلاء على العودة إلى ليبيا، وما برحوا عرضة للانتهاكات. بينما يواجه من فروا من النزاع إلى أوروبا انهياراً لنظام اللجوء، وظلوا ينتظرون طيلة شهور كيما يتم البت في طلبات لجوئهم.

 واختتم سعيد بمومدوحة بالقول: “يتعين على المجتمع الدولي تقاسم عبء التصدي للأزمة، وتقديم المساعدة الحيوية لمن هم بحاجة إلى الحماية الدولية، بتوفير طرق آمنة وقانونية لهم كيما يصلوا إلى بر الأمان، بما في ذلك عن طريق إصدار تأشيرات دخول إنسانية، وتيسير إعادة تسكينهم بصورة مؤقتة”.