الولايات المتحدة تعرقل أهم مهمة للأمم المتحدة

 بقلم سليل شتي، الأمين العام لمنظمة العفو الدولية 

ظهرت الأمم المتحدة إلى حيز الوجود منذ سبعين عاما في مناخ تاريخي من الأمل وحسن النية؛ حيث كان الرئيس هاري ترومان يتحدث عن “الانتصار على الحرب نفسها”. ولنا أن نفخر حقا بإنجازات الأمم المتحدة العديدة التي تحققت على مدى العقود السبعة الماضية في مجال حفظ السلام والجهود الإنسانية ومكافحة الفقر. إلا أن ترومان أيضا حذر مما قد يحدث لو لم تستعن الحكومات بميثاق الأمم المتحدة الذي يؤكد على قيم حقوق الإنسان والمساواة والالتزام بالحفاظ على السلام والأمن الدوليين، حسبما قصد من إنشاء المنظمة الأممية. إذ قال ترومان، في مثل هذه الحالة “سنكون قد خذلنا كل من دفع حياته كي نتمكن من الاجتماع هنا في جو من الحرية والأمن حتى ننشئ هذه المؤسسة”.

واليوم أصبح معنى هذا الخذلان حقيقة واقعة.

فلقد أهدرت الفرص التي أعطاها مؤسسو الأمم المتحدة للعالم، والتي تتمثل في إمكانية قيام مجلس الأمن بتحركات فعالة للمساعدة في حماية المدنيين ومنع وقوع جرائم ضد الإنسانية، أهدرت تلك الفرص مرارا وبصورة مشينة.

إلا أن مجلس الأمن القوي المكلف بأكبر المسئوليات الجسام فشل في التحرك المرة تلو المرة.

سليل شتي، الأمين العام لمنظمة العفو الدولية

وقد قمنا في منظمة العفو الدولية بتوثيق ألوان من المعاناة تفوق حد التصور في سوريا، حيث لقي أكثر من 250 ألف شخص مصرعهم، واضطر 12 مليون – أي نحو نصف الشعب السوري – إلى الفرار من ديارهم أو من بلدهم. ولا تزال أعداد ضخمة تخاطر بأرواحها وتقضي نحبها في خضم الفرار من هذا السعير. لذلك فالحاجة ماسة إلى اتخاذ إجراء حاسم لحماية المدنيين الآن أكثر من أي وقت مضى.

إلا أن مجلس الأمن القوي المكلف بأكبر المسئوليات الجسام فشل في التحرك المرة تلو المرة.

فقد أدى الاستخدام المزدوج لحق الفيتو من جانب روسيا والصين أربع مرات إلى الحيلولة دون قيام مجلس الأمن بتحرك بشأن سوريا ربما ساعد في إنقاذ بعض الأرواح. ففي 2014، صوتت القوتان دون شفقة ضد قرار بإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، مما حال دون التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة من كافة أطراف الصراع.

لكن من الخطأ القول بأن روسيا والصين هما الوحيدتان اللتان تنتهكان النظام.

فقد استخدمت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا حق الفيتو في مجلس الأمن في ثمانينيات القرن العشرين لحماية جنوب أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري، واستخدمته الولايات المتحدة عام 2006 لتعطيل وقف إطلاق النار في لبنان في خضم صراع أفضى إلى وفاة أكثر من 1000 شخص. ومنذ وقت ليس ببعيد، أدى تهديد الولايات المتحدة باستخدام الفيتو إلى إحباط أي آمال في تمرير قرار خلال الصراع الذي امتد 50 يوما في غزة، والذي لقي فيه أكثر من 2000 فلسطيني مصرعهم.

إن مبادرة مجموعة الخمسة، التي كانت منذ سنوات قليلة لا تعجب سوى منظمات حقوق الإنسان فيما يبدو، بدأت اليوم تجد لها صدى لدى الآخرين.

سليل شتي

إن التقاء المصالح على هذا النحو الذي لا يكترث بالآخرين مضر للجميع بلا استثناء.

وعلى سبيل الاعتراض على هذا النظام المختل، قامت حفنة من الدول الصغيرة بعيدة النظر منذ ثلاث سنوات – وهي كوستاريكا والأردن وليشتنشتاين وسنغافورة وسويسرا، والتي تعرف معا في أروقة الأمم المتحدة بمجموعة الخمسة – باقتراح عدد من الإصلاحات، من بينها إجراء لتقييد حق الفيتو بصورة طوعية في حالة وقوع الفظائع الجماعية.

وسرعان ما قام مجلس الأمن القوي، الذي يتحكم في مصائر العالم، بضم الصف ليقول إن حق الفيتو لا يجوز النيل منه، في سابقة اتفقت فيها آراء كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين.

ولكن وسط الأهوال التي لا يزال المجتمع المدني يعمل على توثيقها، ووسط خيبة الأمل التي ما زلنا نشعر بها تجاه زعماء العالم الذين يرفضون حماية المدنيين الذين يموتون بالآلاف، يبدو أننا الآن نشهد آفاق التغيير البنيوي الحقيقي.

إذ إن مبادرة مجموعة الخمسة، التي كانت منذ سنوات قليلة لا تعجب سوى منظمات حقوق الإنسان فيما يبدو، بدأت اليوم تجد لها صدى لدى الآخرين.

فقد أعرب أمين عام الأمم المتحدة السابق كوفي عنان ومنظمة “الشيوخ”، وهي منظمة مستقلة من زعماء العالم الذين يعملون معا من أجل السلام وحقوق الإنسان، عن تأييدهم القوي للمبادرة. كما تزعمت الحكومتان الفرنسية والمكسيكية مبادرة لتقييد حق الفيتو الذي يتمتع به الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن في العام الماضي.

كما انضمت العشرات من الحكومات – وأغلبها من حكومات الدول الصغيرة مرة أخرى – معا في “مجموعة المساءلة والاتساق والشفافية” لتعزيز هذه الدعوات. وقام أكثر من 100 دولة، من بينها فرنسا وبريطانيا، بالانضمام إلى مدونة السلوك الخاصة بمجموعة المساءلة والاتساق والشفافية التي تدعو كافة أعضاء في مجلس الأمن – المنتخبين والدائمين – إلى عدم التصويت ضد أي مشروع قرار معقول يهدف إلى منع أو إيقاف الفظائع الجماعية.

وخلاصة القول إن ثمة حراكا في الوقت الراهن، وإن جدران الجليد السياسية بدأت تتشقق أخيرا على ما يبدو. إلا أن روسيا والولايات المتحدة ما زالتا تؤثران عدم السير في هذا الاتجاه.

لقد كان من الخطأ الفادح أن تستخدم روسيا حق الفيتو بطريقة حالت دون بذل الضغط لإنهاء جرائم الحرب التي ترتكبها حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، ومنعت المحاسبة وإقامة العدل للضحايا المنتمين لكافة أطراف الصراع. لكن نفاق الولايات المتحدة عندما لوحت مهددة باستخدام حق الفيتو لحماية قواتها – وقوات حلفائها لمقربين – من المساءلة من شأنه أن يعطي غطاء لروسيا ومسلكها السيء.

وكان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قد أكد لي في وقت سابق من هذا العام أنه “ينظر بعين الاعتبار الجاد” لقضية تقييد الفيتو. ومنذ وقت قريب، تحدثت السفيرة الأمريكية سمانثا باور – وهي التي كتبت بجرأة عن إخفاقات الحكومة في التصدي للفظائع الجماعية- عن إخفاقات مجلس الأمن الحالية التي تجعل منه مجلسا “عاطلا”.

لكن ما معنى “النظر بعين الاعتبار الجاد” حقا؟ هل تتمتع الولايات المتحدة بالرؤية أو بالأخلاقيات التي تجعلها تلتزم من تلقاء نفسها بإجراء تغيير حقيقي في سياساتها؟

أحيانا يبدو وكأن لا أحد يتعلم أي درس من التاريخ، بما في ذلك المذابح التي شهدتها رواندا عام 1994. ففي ذلك الوقت أيضا رفع عدد من صغار الأعضاء المنتخبين في مجلس الأمن مثل جمهورية التشيك ونيوزيلندا أصواتهم، بينما تبنى الأعضاء الخمسة الدائمون مؤامرة الصمت حيال المذبحة.

والآن وفي ذكرى ميلاد المنظمة الأممية نرى أن اللحظة سانحة أخيرا لإحداث تغيير حقيقي. لقد سبق أن خُنَّا النوايا الطيبة التي انبنت عليها الأمم المتحدة، كما خشي ترومان. ولكن من خلال إصلاح نظام مجلس الأمن يمكن أن تصبح في أيدينا أداة لضمان أن يتطابق منطوق عبارة “لن يحدث هذا أبدا مرة أخرى” مع تجلياتها على أرض الواقع.

نشرت هذه المقالة أولامجلة “فورين بوليسي