المحاسبة في جنوب السودان لا يمكن أن تنتظر السلام، لكنها قد تعززه

بقلم كين سكوت، مستشار منظمة العفو الدولية لجنوب السودان البحوث

يتابع جنوب السودان اليوم مرور الذكرى السنوية الرابعة لقيامه كدولة. وأقول “يتابع” لأن لا شيء يُحتَفَلُ به. فمنذ اندلاع الصراع في أواسط ديسمبر/كانون الأول 2013، وجنوب السودان من أكثر الأماكن في الدنيا احتياجاً والوضع فيه من أكثر الأوضاع في الأرض مأساوية.

فقد قُتِلَ عشرات الآلاف من أبنائه في المدارس، والمستشفيات، والكنائس، والمساجد، بل وحتى في المخيمات التي أقامتها الأمم المتحدة لمن شردهم الصراع بالفعل والتي تحرسها قواتها. وفي 30 يونيو/حزيران، أفادت الأمم المتحدة بوقوع أعمال وحشية خطيرة ضد المدنيين على أيدي القوات الحكومية في ولاية الوحدة، بما في ذلك حرق الناس أحياءً في بيوتهم. وخلص “صندوق الأمم المتحدة للطفولة” (يونيسيف) أخيراً إلى أن “العنف ضد الأطفال في جنوب السودان بلغ مستويات جديدة من الوحشية”، مستشهداً بالاغتصاب الجماعي لفتيات، لا تتجاوز أعمار بعضهن ثمانية أعوام، وقتلهن، وإخصاء صبية وتركهم يموتون.

وبرغم تواتر تعبير الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عن “الغضب” ودعوتهما لوضع حد للصراع، فقد فشلت حتى الآن جهود السلام التي تقودها “الهيئة الحكومية للتنمية” (إيجاد). كذلك لم تحقق المحادثات التي أُجرِيَت أخيراً برعاية رئيس كينيا أي تقدم ملموس.

برغم تواتر تعبير الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عن “الغضب” ودعوتهما لوضع حد للصراع، فقد فشلت حتى الآن جهود السلام التي تقودها “الهيئة الحكومية للتنمية” (إيجاد).

بقلم كين سكوت، مستشار منظمة العفو الدولية لجنوب السودان البحوث

ومن بين الأسباب الأساسية للصراع في جنوب السودان التفشي المؤسف لثقافة الإفلات من العقاب وغياب المحاسبة تاريخياً. فلم يتصد “اتفاق السلام الشامل” لعام 2005 لثغرات في المحاسبة تراكمت نتيجة الحرب الأهلية التي استمرت عشرات السنين مع الشمال. وبعد 18 شهراً استمرت خلالها أعمال القتل، والإيذاء، والاغتصاب، لم تفعل حكومة جنوب السودان شيئاً يُذكَر لمحاسبة أي من مسؤوليها وأفراد قواتها على الانتهاكات المرتكبة، بل وتعرقل في واقع الأمر الجهود الدولية لمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان والتحقيق في جرائم الحرب التي يُحتَمَل أن تكون قد وقعت.

ولم يكن هناك تقصير في إلقاء الخطب والأحاديث الداعية إلى المحاسبة، وإنما تقصير مأساوي في التحرك الفعلي. فقبل عام تكون بالفعل إجماع بين هيئات المجتمع المدني في جنوب السودان والأطراف الدولية، بما في ذلك الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، على إنشاء محكمة مختلطة ما، لكن مثل هذه الآلية لم تجد لها مكاناً في الواقع حتى الآن. والأسباب الأساسية التي ساقها المجتمع الدولي لعدم القيام بخطوات أخرى على مدى العام المنصرم هي الرغبة في إتاحة أكبر فرصة ممكنة لنجاح جهود السلام بعدم تسمية أشخاص يُزعَم مسؤوليتهم عن العنف وإبداء الاعتبار للاتحاد الأفريقي على أمل الوصول إلى حل أفريقي حقيقي لمشكلة المحاسبة.

ونحن نتمنى جميعاً أن يحل سلام حقيقي في جنوب السودان، سلام يتجاوز مجرد وقف إطلاق النار بين فئات النخبة المتنافسة، سلام يتصدى لقضايا البلاد وحاجاتها الحقيقية. لكن المحاسبة ما عاد يمكن أن تنتظر. وبرغم أن البعض عبروا عن وجهة نظر ترى أن العنف ضد المدنيين لن يتوقف إلا متى حل مثل هذا السلام، فالغرض من حظر الجرائم ضد الإنسانية وانتهاك قواعد القانون الإنساني الدولي هو منع مثل هذا العنف ووقفه حتى مع استمرار الصراع المسلح. وقد لا يتسنى تحقيق سلام كامل في الأجل القصير، لكن هذا لا يعني ولا يمكن أن يعني القبول ببساطة باستمرار العنف الواسع النطاق ضد المدنيين إلى أن يتحقق هذا السلام باعتبار ذلك هو “طبيعة الأمور”.

ليس صحيحاً أنه لا يمكن العمل على إقرار العدالة والمحاسبة إلا بعد إحلال السلام. فقد شُكِّلَت لجنة خبراء لتقصي الحقائق في حروب البلقان في التسعينات قبل توقيع اتفاقات دايتون للسلام بثلاث سنوات. وأُنشِئَت “المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة” قبل توقيع الاتفاقات بعامين. وكان المحققون الدوليون موجودين في أرض الواقع وكان جمع الأدلة جارياً والقتال مستمر. وشُكِّلَت “لجنة التحقيق الدولية المستقلة” للتحقيق في مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري و21 شخصاً آخر، بموجب قرار من مجلس الأمن في إبريل/نيسان 2005، قبل إنشاء “المحكمة الخاصة بلبنان” في 2009 بأربع سنوات.

وينبغي التصدي للصراع في جنوب السودان بطريقة مماثلة. لا حاجة لانتظار حلول سلام كامل أو إلى أن يتم إنشاء محكمة أو هيئة قضائية كاملة الصلاحيات. فواقع الأمر أن شعب جنوب السودان لا يستطيع أن ينتظر.

ويتيح الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة سلطة وافرة تمكن من إنشاء آلية مختلطة للمحاسبة في جنوب السودان، وقد خلص مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إعمالاً للفصل السابع، ثماني مرات على الأقل منذ عام 2011، أحدثها في 28 مايو/أيار، إلى أن الوضع في جنوب السودان يمثل تهديداً للسلام والأمن الدوليين.

لا بد من وصول محققين جنائيين تُتاح لهم الموارد الكافية إلى أرض الواقع في جنوب السودان في أقرب وقت ممكن قبل تعرض مزيد من الأدلة للتدمير أو الإخفاء أو قبل أن يمحوها الزمن.

وكان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قد قال قبل ما يقرب من عام “لقد تجاوزنا كثيراً بالفعل المرحلة التي طفح فيها الكيل”. وإذا كان هذا صحيحاً قبل عام، فلا بد أن صحته تأكدت الآن. كم مدني من أبناء جنوب السودان ينبغي أن يُقتَل وكم شابة ينبغي أن تتعرض للاعتداء الجنسي قبل القيام بخطوات حقيقية، وملموسة لتحقيق الأمن المستمر للجميع.

وقد تعهدت الولايات المتحدة في أوائل مايو/أيار بتقديم خمسة ملايين دولار للمساعدة في إنشاء آلية للمحاسبة لجنوب السودان. وينبغي أن يفضي هذا التعهد إلى تحرك ملموس الآن.

من شأن تفويض دولي قوي ومتواصل أن يؤدي إلى تطبيق العدالة، وقد يفضي اتخاذ خطوات حقيقية نحو تطبيق العدالة إلى السلام. وقد توقف الأطراف المتحاربة في جنوب السودان، أو على الأقل تقلص، هجماتها على المدنيين، والكنائس، والمدارس عندما ترى محققين جنائيين دوليين جادين في أرض الواقع مع قوة قادرة لحمايتهم ونية صادقة لتوجيه الاتهام إلى المسؤولين عن مثل هذا البؤس الإنساني وتقديمهم إلى العدالة. لقد حان الآن وقت التحرك بطريقة حاسمة لوقف العنف.

كين سكوت مستشار لمنظمة العفو الدولية لبحوث جنوب السودان. وهو مدع كبير سابق في “المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة” ويشغل حالياً منصب مدع خاص في “المحكمة الخاصة بلبنان”.