النضال الحقوقي في زمن فيروس كوفيد-19: حان وقت التغيير؟

ما أعجب هذا الزمن الذي نعيش فيه الآن! لقد كشف وباء فيروس كوفيد-19 النقاب عن تناقضات وتفاوتات هائلة في مجتمعاتنا، فبعضنا – وإن كنا في وضع متميز مقارنة بغيرنا – يشعر وكأن حياته قد أوقفت إلى حين، وأن العالم لم يعد كما عهدناه من قبل.  ولا نعرف سمات “الوضع الطبيعي الجديد” كيف عساها أن تكون؛ إنه زمن مخيف، ولكنه في الوقت ذاته يحمل في ثناياه بعض بوارق الأمل.

لقد رأينا منذ بدء الوباء العالمي كيف أصبح الجيران يبتسمون في وجوه بعضهم البعض؛ وكيف أصبح الأهل والأصدقاء يتجاذبون أطراف  الحديث فيما بينهم أكثر من ذي قبل، وكيف أخذت المجتمعات تقدم الدعم للفئات الأشد تضرراً من الجائحة؛ وشهدنا محلات السوبرماركت تعطي الأولوية لزبائنها من الفئات الهشة الأقل تحملاً للمرض، والأطفال يعرضون الدمى وألوان قوس قزح من نوافذهم؛ كما رأينا الأفراد والشركات يصنعون الكمائم وغيرها من وسائل الوقاية من العدوى، والمتطوعين يقدمون العون في مراكز توزيع الغذاء على الفقراء. هذه ملامح صورة محتملة للمستقبل؛ صورة يهتم فيها البشر ببعضهم البعض، ويساعدون بعضهم البعض، ويبدون مزيداً من التضامن والتكاتف فيما بينهم.

وأثناء إجراءات الحظر والإغلاق الشامل، أدى التباعد الاجتماعي – بل التباعد الجسدي في واقع الأمر – إلى تعزيز الحاجة إلى التواصل والتلاحم الاجتماعي ، مما أدى بدوره إلى مزيد من التقارب بين الأفراد والمجتمعات، ورأينا أشكالاً وأساليب جديدة من التآلف والتنظيم بين الناس، كأن يصفق الملايين من الناس في آن معاً تعبيراً عن تقديرهم وامتنانهم للعاملين في قطاع الصحة و غيرهم من العاملين الأساسيين؛ ويعزف الموسيقيون معاً على  الإنترنت، ويؤلفون الأغاني التي تشيد بالإنسانية والصمود والثبات في مواجهة المحن والشدائد؛ وتتيح المسارح والمراكز الثقافية عروضها  لجماهير واسعة من المتفرجين على الإنترنت؛ ومن قبيل ذلك أيضاً ابتكار الآلاف من الصور  الفكاهية والساخرة كأداة للمقاومة والصمود لاجتياز هذه الفترة العصيبة.

ولقد أثر وباء فيروس كوفيد-19 وإجراءات  الاستجابة له  على الناس بأشكال عديدة وعلى مستويات مختلفة ومتعددة؛ وكما هو الحال دائماً، كانت أضعف فئات المجتمع هي الأشد تضرراً من هذه الأزمة؛ وكان التباين غير المتناسب في الآثار التي خلفتها الأزمة على مختلف قطاعات المجتمع مدعاة لإعادة تصميم أنظمتنا بحيث لا يتخلف أحد عن الركب.

وتتضافر الآن جهود الحركات والمنظمات والنشطاء، ويدعم بعضها بعضاً في الدفع من أجل التغيير من خلال  وسائل جديدة ومبتكرة – بدءاً من ممارسة الرعاية الذاتية والرعاية المجتمعية (انظر مثلاً مجلة الهواة هذه التي صممها شباب النشطاء من أجل نظرائهم). وتسعى هذه  المنظمات والحركات لتعزيز التعاون فيما بينها ، والاشتراك في المبادرات وتقاسم الموارد والدعم للتصدي لأزمة كوفيد-19 في إطار مجتمع النشطاء بوجه عام من خلال  الحلقات الدراسية الشبكية،  والمؤتمرات ،  وأدوات التدريب،  والوثائق المتاحة على الإنترنت بجهود مصادر خارجية.

ويشهد النضال الحقوقي تطوراً مستمراً، حيث تتعلم الحركات والمنظمات سبل تطويع وتكييف أدواتها وأنظمتها  بما يتلاءم مع بناء قدراتها، فتقوم بتنظيم الجماهير واستنهاضها، وحشدها للتحرك متغلبةً على قيود التباعد الاجتماعي. وقد وثق بحث اضطلع به مصدر خارجي أكثر من 140 طريقة للتحرك غير العنيف أثناء الجائحة، مما يظهر ازدهارسلطة الجماهير وعنفوانها أثناء هذه الأزمة العالمية التي لم يسبق لها مثيل .

ففي بولندا، خرجت جموع النشطاء المدافعين عن حقوق المرأة في مسيرات جابت شوارع المدن، سيراً على الأقدام وعلى متن الدراجات والسيارات، وهم يحملون اللافتات، وتظاهروا أثناء وقوفهم في طوابير محلات السوبر ماركت ملتزمين بقواعد  التباعد الاجتماعي، دفاعاً عن الحقوق الجنسية والإنجابية، وتحقق لهم ما يريدون: فقد جمَّد البرلمان مشاريع القوانين الرجعية التي قدمت إليه. وتأييداً لهؤلاء النشطاء، انخرط نشطاء آخرون من جميع أنحاء أوروبا في حملة تضامنية من خلال هاشتاغ أسموه #protestathome ، أي “الاحتجاج في المنازل”.

أما حركة الشباب الدولية المعنية بالمناخ فقد نقلت أنشطتها التعبوية إلى فضاء الإنترنت؛ فقد دأب نشطاؤها على نشر صور لافتاتهم وشعاراتهم من منازلهم في يوم الجمعة من كل أسبوع من خلال الهاشتاغ  #DigitalStrike (أي الإضراب الرقمي). واحتفل النشطاء بيوم الأرض هذا العام من خلال “مسيرة رقمية” مع البث  الحي لوقائعها على الإنترنت على مدى 72 ساعة . ، وتضمنت فعالياتها إلقاء الخطب وعزف الموسيقي والاحتجاجات؛ كما نظمت الحركة المناخية العالمية المسماة “إضراب الجمعة من أجل المستقبل” إضراباً رقمياً مع بث حي لوقائعه تابعه أكثر من 230 ألف مشاهد.

وتنظم بعض الحركات والمنظمات تجمعات لإطلاق حملات من خلال الاتصالات الهاتفية الجماعية، أو رسائل البريد الإلكتروني الجماعية، أو التغريدات الجماعية ، ويشارك فيها النشطاء والمؤيدون في إطار تحرك منسق ومباشر عبر الإنترنت لممارسة ضغوط جماهيرية على طرف مستهدف في لحظة حاسمة، كأن يكون ذلك مثلاً أثناء خطاب يلقيه أحد صناع القرار في مؤتمر ما. وانطلقت مبادرات أخرى من قبيل تنظيم إضرابات المستأجرين، ونشر تعليقات ناقدة وآراء سلبية على الإنترنت، وتظاهرات السيارات العابرة، والسلاسل التضامنية.

ونحن على استعداد لمواصلة السعي والمثابرة على هذا المنوال مهما طال الزمن،  ومن ثم فمن الجدير بمنظمي الأنشطة في هذا الوقت الحاسم العمل على بناء حركات أرسخ أساساً، وأكثر تنوعاً بحيث تأخذ بعين الاعتبار الفجوة الرقمية المتسعة وغيرها من الفوارق وأوجه اللامساواة، وتسعى للتغلب عليها.   ويجب علينا السعي لاكتساب المزيد من الأنصار والنشطاء من خلال تبسيط إجراءات الاشتراك على الإنترنت، وتخفيض مستوى المتطلبات، وحث الناس على دعوة أقاربهم للانخراط في الأنشطة.  ويتعين علينا الاستمرار في رعاية ومساندة أنصارنا ومتطوعينا من خلال الاجتماعات عبر الإنترنت، والمكالمات الهاتفية، والحلقات الدراسية الشبكية، لتفقد احتياجاتهم والاستماع لآرائهم واقتراحاتهم بشأن أفضل السبل لمساندتهم، وبناء مهاراتهم، والإقرار بدورهم ومساهماتهم. ويجب علينا التعاون والتضافر وبناء تحالفات في دائرة النضال الحقوقي.

لقد أبدى الكثير من الناس رغبتهم في أن يكونوا جزءاً من هذا السعي للتغيير وتحديد البدائل؛ وبدأ الكثيرون في دعم الحركات والمنظمات أو الانضمام إليها، وبعضهم يسعون لتنمية قدراتهم ومهاراتهم التنظيمية والقيادية لتسخير هذه الطاقة الجماعية والإبداعية.

وفي الوقت الذي تقف فيه الحركات والمنظمات والنشطاء بالمرصاد للحكومات والمؤسسات والشركات  وغيرها من الأطراف الفاعلة، وترقب بلا كلل أو ملل كل ما تفعله أو لا تفعله، فإن هذه الحركات والمنظمات والأفراد تعكف كذلك على إعادة صياغة عملها، وإعادة ترتيب أولوياتها، بما يعينها على تلبية الاحتياجات الراهنة، وتبيان ملامح “الوضع الطبيعي الجديد” في العالم استعداداً للفترة التالية لانتهاء أزمة كوفيد-19.

وقد أتاحت هذه الأزمة فرصة هائلة لإحداث تغيير منهجي بدءاً من الاعتراف باللامساواة ومعالجتها من جذورها. ولقد شهدنا أثناء هذه الفترة العشرات من البيانات والإعلانات والتعهدات التي كان لها عظيم الأثر في حشد الحركات والمنظمات والآلاف من الأفراد وراء النداءات المطالبة بإحداث تغيير في المسار لتحقيق عالم أكثر استدامة ومساواة.

ولقد آن الأوان لتعزيز حقوق الإنسان، وإعادة التفاوض لإبرام عقد اجتماعي جديد، والأخذ بخيارات مختلفة من أجل المستقبل – مستقبل يضع البشر والبيئة على رأس أولوياته، ولا يتخلف فيه أحد عن الركب.