حكاية الفلسطينيين مع الاعتقال الإداري وصخرة “سيزيف”

عبد الرازق فراج هو أبٌ لابنين والمدير المالي والإداري لـ”اتحاد لجان العمل الزراعي”، وهي منظمة غير حكومية يقع مقرها في رام الله، حيث عمل أكثر من 30 عامًا. أمضى عبد الرازق فراج عشرة أعوامٍ من عمره رهن الاعتقال الإداري، أي (وعلى وجه الدقة) ما يبلغ 3743 يوماً، دون أن تُوجه له تهمة أو أن يُحاكم.

***

الكتابة عن تجربتك في الاعتقال الإداري تعني أن تنشّط ذاكرتك لتسترجع عقوداً طويلة من المعاناة التي لا تقتصر عليك وحدك، بل تشمل أسرتك ومحيطك الاجتماعي والمهني، ولا سيما حين يطاردك هذا النوع من الاعتقال كظلك.

لا تكاد تنهي اعتقالاً تعسفياً واحداً بلا لائحة اتهام أو محاكمة، حتى تعيش هاجس الاعتقال أنت وأسرتك من جديد، لمجرد أنهم يزعمون أنك تشكّل خطراً على “أمن المنطقة والجمهور” وأنهم يملكون ملفاً سرياً ضدك.

أعادتني الكتابة عن الاعتقال الإداري 33 عاماً إلى الوراء، وتحديداً إلى سنة 1985، حين كنت في الـثانية والعشرين من العمر، فبعد تحقيقٍ قاسٍ استمرّ نحو شهرين في مركز تحقيق المسكوبية في القدس نفيت خلاله كافة التهم المنسوبة إليّ، قال أحد ضباط التحقيق – بقدر ما تسعفني الذاكرة-: “لن يغيّر إنكارك للتهم الموجّهة ضدك شيئاً في الواقع، سنرسل توصية إلى المحكمة العسكرية تنصّ على إصدار عقوبة قاسية ضدك بموجب ’قانون تامير الذي يتيح الإدانة بناءً على اعترافات الغير‘، ناهيك عن الاعتقال الإداري”!!

التزم القضاة بتوصية جهاز الأمن الداخلي (الشين بيت)، وصدر الحكم بالسجن لمدة 11 عاماً من ضمنها ستة أعوام من الاعتقال الفعلي والباقي مع وقف التنفيذ لمدة ثلاثة أعوام. أمضيت ثلاثة أعوام من الحرية النسبية تخلّلها زواجي من لميس الصبية التي أحببت والتي عاشت ولا تزال تعيش المعاناة ذاتها منذ بداياتنا الأولى سنة 1985. أثمر حبنا ولادة الطفلين باسل ووديع، وعاشا هما أيضاً معاناة وطفولة صعبة لا تشبه الطفولة الطبيعية بسبب الغياب المتكرر للأب، لكن زوجتي عوّضت هذا الغياب لهما، فكانت أماً وأباً وصديقاً.

لم تقتصر المعاناة على زوجتي وطفليّ فحسب، بل كانت وما زالت أيضاً رفيقاً دائماً لأمي التي عملت بكل إصرار وعزم على مدى ثلاثة عشر عاماً حتى ترعى وتطعم خمسة أطفال فقدوا والدهم مبكراً.

حلّت عليّ لعنة الاعتقال الإداري للمرة الأولى في أوائل شهر مايو/أيار سنة 1994. وأكثر ما صَعُبَ عليّ في هذه الفترة الحِمْلُ الذي تحمّلته لميس من أعباء لتربية وتعليم ورعاية طفلين بالكاد تعرفا على والدهما الغائب الحاضر، الذي عاد إلى البيت بعد غياب استمر 22 شهراً. فقد كان إسمي “عمو بابا” بالنسبة إلى ابني الصغير وديع الذي بلغ عمره آنذاك عامين ونصف العام!

أكثر ما صَعُبَ عليّ في هذه الفترة الحِمْلُ الذي تحمّلته لميس من أعباء لتربية وتعليم ورعاية طفلين بالكاد تعرفا على والدهما الغائب الحاضر.

عبدالرازق فراج

منذ سنة 1996 وحتى سنة 2002، حاولت الأسرة أن تتعلم الحياة وتعيشها بصورة طبيعية كباقي البشر، تأمل بمستقبل أفضل بدون احتلال ومداهمات ليلية، لكن لم يمهلها سيف الاعتقال الإداري طويلاً، فتحوّلت منذ ذلك الوقت وحتى الآن من أبٍ إلى نزيلٍ شبه دائم في سجون الاحتلال.

في أوائل أبريل/نيسان سنة 2002، خضت أطول مدة اعتقال دامت 52 شهراً، ستة أشهر تتلوها ستة أخرى وهكذا حتى نهاية يوليو/تموز 2006. كَبِرَ الطفلان، وهما يعيشان معي المعاناة ذاتها، بدآ يفهمان معنى الاعتقال الإداري وتجديده المتواصل لكنهما لم يَكُفّا عن طرح الأسئلة الكبيرة وتكرار السؤال “إلى متى؟” ومع دنو انتهاء كل تمديد للاعتقال، كانت الآمال بلمّ شمل العائلة تزداد، لكن مصادقة قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال على توصية جهاز “الشين بيت” كانت كفيلة بإحباط هذا الأمل وتأجيل الفرح مرة تلو الأخرى.

ومع أن باسل ووديع التحقا بركب الحياة بنجاح، فالأول باشر في رسالة الدكتوراه في علم الاجتماع وعلم الإنسان في سويسرا، والثاني مهندس كهرباء يقترب من إنهاء درجة الماجيستر، إلا أن السؤال نفسه ظل يتردّد، بل تجدّد وتكرّر هذه المرة على لسان فرح، ابنة شقيقي خالد، التي وُلِدَت أثناء وجودي في الاعتقال الإداري سنة 2003 وكان لي شرف تسميتها في بحث عن مساحة للفرح. تكرّر السيناريو وأعادت فرح طرح الأسئلة ذاتها، فقد سألت ببراءة الأطفال عندما أُفْرِجَ عنّي ذات مرة إذا كنت سارقاً وإذا كان ذلك سبب بقائي رهن الاعتقال. وسألها والدها مرة أخرى من أين خرج العم فكان جوابها من البراد، لأنّ في مخيلتها صورة لي على “بوستر” في براد بيتهم تشير إلى عدم إنسانية الاعتقال الإداري.

صورة لي على
صورة لي على “بوستر” في براد بيتهم تشير إلى عدم إنسانية الاعتقال الإداري.

عَوْدٌ على بدء، تكرّر عذاب حمل صخرة “سيزيف” أربع مرات إضافية بعد ذلك، ليصبح المجموع عشرة أعوام ونصف العام، أي 3833 يوماً، تخلّلها قيامي بإضرابين عن الطعام ضد هذا النوع من الاعتقال التعسفي، الأول في سنة 2012 والثاني في سنة 2014 لمدة 77 يوماً تقريباً.

تقول إحدى الأساطير الإغريقية إن “سيزيف” أغضب الآلهة فعاقبته بالعذاب الأبدي المتمثّل بحمل صخرة من سفح جبل والصعود بها إلى القمة. فكلما بلغ قمة الجبل سقطت الصخرة متدحرجةً إلى السفح ليضطرّ إلى حملها من جديد والصعود بها محاولاً بلوغ القمة. ولكن قوته لم تسعفه فبات عذابه أبدياً…

تحوّلت هذه الأسطورة إلى واقع حقيقي في زمن الاحتلال الإسرائيلي، فبات “سيزيف” يتجسّد واقعاً في المئات من الفلسطينيين والفلسطينيات الذين عُذّبوا ويُعَذّبون بصورة متواصلة بالاعتقال الإداري المتكرر ولفترات طويلة وصلت بالنسبة إلى الراحل علي عوض الجمال الذي توفي يوم السادس عشر من أبريل/نيسان الماضي إلى سبع سنوات، وتحديداً من سنة 1975 وحتى سنة 1982، في ممارسة لأبشع أنواع العقاب غير المبرر.

ما إن يقترب المعتقل الإداري من إنهاء ثقل ومعاناة القرار الأول بالاعتقال التعسفي الذي يتراوح بين ثلاثة وستة أشهر، حتى ينتظره تحمل ثقل وقيود ومعاناة قرار ثانٍ وثالث ورابع… في تعبير عن التعذيب المتواصل، تماماً كما حصل مع “سيزيف” في الأسطورة الإغريقية، لمجرد أن القائد العسكري يزعم بأن المعتقل يشكل “خطراً على أمن المنطقة والجمهور” من دون أي دليل علني قابل للدحض أو قدرة للدفاع عن النفس.

وليست هذه الحكاية كلها، فما إن يرفع آلاف الفلسطينيين عن كاهلهم ثقل فترة الاعتقال الإداري الأولى بتجديداتها، حتى تكون بانتظارهم مرة بل مرات أخرى من المعاناة المتواصلة لهم ولأسرهم، التي وصل تراكمها بالنسبة إلى عشرات الفلسطينيين إلى ما يزيد عن أربعة عشر عاماً من الاعتقال التعسفي. ولا تفصل المرة الواحدة عن الأخرى سوى أشهر محدودة من حيز الحرية المؤقتة وقد لا تتجاوز لدى البعض شهرين أو ثلاثة أشهر!!

يعرف المعتقل تاريخ اعتقاله، أما تاريخ الافراج عنه فهو فقط بيد من أوصى بالاعتقال، إذ إن ما يسمى بالرقابة القضائية النزيهة والمحايدة على هذا النوع من الاعتقال مجرد كذبة ممجوجة، دأب الاحتلال على ترويجها.

وتؤكد الإحصاءات الفلسطينية أن الاحتلال اعتقل منذ سنة 1967 نحو 50 ألف فلسطيني إدارياً، مستنداً في ذلك إلى المادة 111 من قانون الطوارئ الصادر عن الانتداب البريطاني لسنة 1945 وبناءً على عدد من الأوامر العسكرية كان آخرها المادة 285 من الأمر العسكري رقم 1651 لسنة 2009. ويستخدم الاحتلال أيضاً أوامر عسكرية أخرى لتنفيذ السياسة ذاتها ضد المقدسيين والفلسطينيين داخل الخط الأخضر.

وشرع المعتقلون الإداريون، في إطار بحثهم عن مساحة أمل لهم ولأسرهم، منذ منتصف فبراير/شباط الماضي في مقاطعة كافة المحاكم الخاصة بالاعتقال الإداري، فهم لم يعودوا يمثلون أمام المحكمة المسماة محكمة التثبيت أو الرقابة القضائية على قرارات الاعتقال والتجديد، كما يمتنعون منذ ذلك التاريخ عن تقديم استئنافات على قرارات اعتقالهم وتجديده المتكررة، ويمتنعون أيضاً عن التوجه إلى المحكمة العليا الإسرائيلية.

وتعدّ مقاطعة المحاكم الشكلية خطوةً لجأ إليها المعتقلون الإداريون مرات عدة خلال العقود الماضية، ويتطلّعون هذه المرة إلى تحويلها إلى خطوة دائمة نهائية، وهي خطوة موازية للإضرابات الفردية والجماعية عن الطعام خلال السنوات الأخيرة، في مسعى لإنهاء هذه السياسة التعسفية أو على الأقل عدم معارضة وإنفاذ أحكام القانون الدولي بشأن الاعتقال التعسفي.

وتكمن الأسباب التي دفعتهم إلى المقاطعة والإضرابات عن الطعام في كل ما سبق. فالحكم العسكري وظروفه الطارئة والاستثنائية بات عمرها 51 عاماً!! ويمثّل القضاة في كافة المستويات الذين ينظرون في أوامر الاعتقال الإداري في الواقع الوجه الآخر لجهاز (الشين بيت) ينفّذون إرادته نصاً وروحاً، كما أن أكذوبة الملف السري والخطر على أمن المنطقة والجمهور لم تعد تنطلي على المعتقلين الإداريين.

يمكن اختصار ما يودّ المعتقلون الإداريون قوله بالآتي: كفى! لا نريد إعطاء هذا الاعتقال التعسفي أي شرعية بالمثول أمام محاكمه الشكلية والصورية. لقد كَبِرَ أطفالنا وهم يشاركوننا المعاناة والعذاب الأبدي ذاته، ويعيشون دوماً في انتظار حريتنا، تماماً كما يحصل الآن مع طفل المعتقل صلاح حموريالذي يبلغ من العمر سنتين، كذلك مع عائلة النائب في المجلس التشريعي المعتقلة خالدة جرار، الذين مضى على اعتقالهما الإداري أكثر من سنة.

أخيراً، ألم يحن الأوان حتى ينعم “سيزيف” الفلسطيني بحريته؟؟؟